دستور الله في ما يتعلق بالصحة، الإنتاج والإنضباط في حياة الإنسان
بحث للشيخ فارس المصطفى، إمام وخطيب مسجد الفروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)
بسم الله الرحمن الرحيم
لابد لنا كبداية أن نقرر ثابتا بأن الإنسان هو المخلوق الأول ، لقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ} الأحزاب : 72
ولأن هذا الإنسان اختار حمل تلك الأمانة العظيمة فقد بات معها المخلوق الأول من حيث المرتبة ، قال الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ} سورة الجاثية : 13
أما التسخير فينقسم إلى: تسخير تعريف، وتسخير تكريم، فغدا الإنسان معها هو ذلك المخلوق الأول والمكرم، تصديقاً لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} سورة الإسراء : 70
وفي تبسيط يكاد يشكل التكوين الأساس لهذا المخلوق المتفرد بمزاياه التي جبلها الإله فيه، سنجد أنه عبارة عن عقل يدرك، وقلب يتقلب، وجسم يتحرك، فغذاء العقل يكمن في العلم، وغذاء القلب (السليم فطرة) يكون في الحُب، وغذاء الجسم المادي معلوم بمادة الطعام والشراب، وفيما لو احتبست حاجات القلب والعقل والجسم عن تلبية نداءاتها تلك، تُنْبِتُ حينها بذرةَ التطرّف، بينما لو تمّ لكل منها حاجته، لسما للتفوّق عنواناً وضّاءاً.
فالناس على اختلاف مللهم، ونحلهم، وانتماءاتهم، وتنوّع أعراقهم واختلاف أنسابهم ومشاربهم وطوائفهم، لا يزيدون عن نموذجين اثنين لا ثالث لهما، فالأرض وتبعا لآخر إحصاء لامست رقم السبعة مليارات إنسان تقريباً، ينقسمون إما إلى نموذج أول: عرف وأقرَّ بدستور الله وضوابطه ومنهجه فاعتقد به واتبعه، بما يدعوه به من إحسان إلى خلقه جميعا وعناية بصحة بصحة جسده وأشواق روحه فكانت له سعادة الدنيا والآخرة، ونموذج آخر: غفل عن ذلك الدستور الإلهي فخالف منهجه، وأساء إلى خلقه وصحته وغذاء روحه.
ولما كان الإنسان كائناً مُتحركاً، فلا بُدَّ بداهةً من أن تضبط تلك الحركة بمنهج ودستور يكون له فيه كل الخير بما يُعينه على تلك الحياة، فالله الذي خلقنا هو الأعلم بما فيه صلاحنا وصلاح أبداننا فيقول جل وعلا: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} سورة الملوك : 14. لذلك اقترن هذا الخلق بخاصية إعمار وبناء، وإحياء ونماء، كما في قوله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} سورة هود : 61، مما يؤكِّد دعوته للإعمار أخذاً بالعمل والجِدِّ كأدوات تناقض الكسلَ وتنفِّرُ من الخمول وتهجر ما يعيق مسيرةَ الإنسان عن النهوض برسالته السامية في عمارة هذه الأرض، فَلِمِ لا يستلهم حكمة الله في التحريض على العمل من خلال ما بثَّ في صُنع خلْقه مما ينسحب على نشاط النمل وسعي النحل وهمّة العنكبوت، فالأولى بكل ذلك أن يخجل من استكانته إلى انطواء، أو تقوقعه على ذاته بانكفاء، متذرِّعاً بما لا يكون إلا لسقيم واهن يعجز عن تلك الواجبات الجسام، فطلب منا سبحانه وتعالى الاهتمام بصحتنا وقايةً وعلاجاً، نتلمس ذلك في الآية التي ردَّت المرض ونسبته إلى الإنسان، مع أن الصحة والمرض من عند الله، لكن الله قال: { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} سورة الشعراء : 80.
فنبَّهنا إلى حقيقة أن الإنسان الذي يخالف دستور الله في الحياة، هو الذي مكِّن للمرض سبيلاً إليه، ومهَّد له طريقاً لجسده ونفسه وروحه، فكانت دعوته بالعناية بالنظافة وجعلها من لوازم هذا الدين فقال { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} سورة الأنفال : 11، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (حسِّنوا رِحالَكم) أي ما ترتحلون به من إبل وغيرها من دابة، يماثلها في زماننا هذا بالطبع السيارات (وقلِّموا أظافركم، وخذوا من شعوركم حتى تكونوا كأنكم شامةٌ في الناس) بل إن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بيَّن أن كثيراً من الناس يخالف دستور الله في الحياة وينخدع في صحته فقال: (نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس، الصحة والفراغ) أي لا يعرف قدرهما ألا بعد فقدهما.
إن الأخذ بدستور الله وهديه في الحياة لهو بحق زادُ العاقل كي يتقوّى به في كل المجالات مطابقة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القويُّ خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) فكما أسلفنا بأن للقوة قيمة لها مكانتها العالية كطاقة لازمة للنشاط والمثابرة لدى المؤمن، يتأتى كل ذلك بتعويد الجسد على أداء وظائفه بالوجه الأكمل، من استيقاظ مُبكِّر للعمل والعبادة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم تعوّذ من الكسل، بل ذمَّه، في قوله: (اللهم إني أعوذ بك من الهمِّ والحزن والعجز والكسل).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بُورك لأمتي في بكورها) يقول الصحابي صخر بن وداعة رضي الله عنه وهو راوي الحديث وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشا بعثه أول النهار وكان سيدنا صخر رضي الله عنه تاجراً، وكان إذا بعث تجارة، بعثها أولَ النهار، فأثرى وكثُرَ ماله.
قد يستمرئ البعض السمَرَ والسهر لغير ما ضرورة مُلحةٍ، وفي هذا لعمري صنفٌ من صنوف العِلل في ترسبها وتكالبها ربما دون وعي منه.
أسائل نفسي أحياناً، حتَّام هذا النكوصُ عن متع الدنيا الزاخرة بنعمائها الجلية وطِيب زادها ويانع ثمرها وطاهر رزقها وبديع متعها التي تتجلى في صور شتى تتنوّع ما بين إصباح يجلِّلُ النفس ساعةَ الفجر بغلالة رطيبة باردة نسماتها فيستروح القلب عذْب نميرها بما يَسُرُّه ويُطربه بخفقان يوحِّد الإلهَ على نعمة العافية، فلا تنغلق النفس وتنحبس في شرنقة الأوهام ونير الاكتئاب وسطوة المرار وحنظل التردي،في حرمانها من إشراقة شمس، وتنفس صدر، وبسمة أمل لغد بسّام.
كيف لامرئ أن يحرم نفسه بتعوّد السهر لهْواً وسفاهةً ولعباً وهزلاً والأخذ بتلك المثلبة كأنها غايته من هذه الحياة، كيف ارتضى حيرةً من بعد رضى، واستبدل الأدنى بما هو أعلى، فذوت به نفسه وآلت به إلى دركات يستعر فيها بين لظى الكآبة وشواظ القلق وأزقَّة التردي والضياع ، فلا يعي نهاراً ولا يُطالع شمساً، أفلا يساءل نفسه: إلى أين المنتهى؟ أضف إلى ذلك ما يقترفه، ربما دون وعي منه، بتعطيل سُنة الليل وسُنة النهار وجهل نفعهما، فيما أقرَّه الله تعالى الذي جعل الليل لباساً والنوم سُباتاً وجعله سكناً، وجعل النهار معاشاًوحركةً ومساحةَ رزقٍ.
تحضرني بعضُ الأمثلة التي تلزمني الابتسام تعجُّباً في كثير من الأحيان لغياب منطوق الصدق منها ولابتعادها مسافة كبيرة عن جوهر الحقيقة، لا مناص من ذكرها، كونها تلج خانة السذاجة في الأحكام اعتباطاً وعن غير دراية، ولعلها استحكمت كتكرار ببغاوي ليس إلا، فيما يعتقده بعض الدهماء عن واقع يوم في الغرب (غير المسلم) فيهيمون بإلباسه ثوب اللهو والمتع العبثية الدائمة ويصورون حال الناس هناك في أنهم يعيشون في سهر دائم متصل صاخب لا نهاية له! بينما الواقع غير ذلك تماما، فتلك بلدان تحترم الوقت وقيمة الجهد البشري وتأخذ بأسباب التقدم والمدَنية والعقل من خلال حرص الفرد على نومه مُبكراً واستيقاظه مبكّراً في سعي صحي مثالي يترجمه بداية بممارسة الرياضة وتناوله الغذاء الجيد ثم التحاقه بعمله المقدَّس. فإذا علمنا أن هذا ما يشكل قوام وحال يوم الفرد العادي في الغرب.
فالأحرى أن نتَّعِظ بمنهج الله الذي رسمه خيراً لنا ونمتثل قوانينه فيما أقرَّ من صلاح بنيان لا يقوم إلا باتباع الرشاد. أضف إلى ذلك ما أثبتته الكثير من الدراسات المنهجية العلمية التي تصب في خانة ما أذكر، وأحاول من خلال هذه المساحة أن أُعزِّز المادة علمياً بما يوافق وما أقره الشارع في دستوره.
ومن تلك الدراسات ، تلك التي تؤكد يقينا بما لا يترك أي مجال للشك من أن السهر يمكن أن بهدد العمر، ويقلل من فاعلية جهاز المناعة الذي هو خط الدفاع الأول ضد الأمراض. هذا فضلا عن ضعف الحيوية والنشاط، وحدوث تغيرات في المزاج وفي الحالة النفسية ينعكس على أداء الفرد الشخصي أثناء النهار، حيث يصاب المرء بالهذيان، والتشتت الذهني، وتعزى أسباب ذلك إلى تأثر الموصلات العصبية الكيميائية بالمخ، مثل مادة «السيروتونين» وحامض «البوتريك».
بينت الدراسات في جامعة «س – بافيا» في إيطاليا أن قلة النوم تسبب ارتفاع في ضغط الدم صباح اليوم التالي، وأن تكرار ذلك يؤدي إلى أضرار صحية خطيرة، ويعتقد الباحثون أن عدم أخذ القسط الكافي من النوم يكون مسئولاً عن حدوث الأزمات القلبية في ساعات الصباح المبكر في معظم الحالات.
ودراسة ثانية وجدت أن أكثر الناس سهراً هم أكثر زيادة في الوزن. وقد فحص «د. مانويل» في جامعة «ستانفورد» بكاليفورنيا 1000 شخص، وسجل ساعات النوم لكل منهم، كما سجل مستوى هرموني «ليبتين، جريلين»، ووجد أن الذين ينامون خمس ساعات أو أقل ليلاً بشكل ثابت، قد ارتفع لديهم هرمون الجوع «جريلين» بمعدل 14.9%، بينما انخفض لديهم هرمون الشبع «ليبتين» بمعدل 15.5%، مقارنة بأولئك الذين ناموا 8 ساعات ليلاً.
ووصف «ريتشارد ستيفنز» الخبير الدولي بهذا المجال نتائج الدراسة بأنها تحول مفاجئ، مشيرا إلى أنه أجرى دراسة عام 1987 انتهت إلى الربط بين التعرض للضوء بشكل مستمر أثناء الليل والإصابة بسرطان الثدي. كما توصلت دراسات أخرى إلى أن الرجال الذين يعملون ليلا معرضون للإصابة بأنواع أخرى من السرطان منها سرطان البروستاتا.
فالمسألة إذن لا تعدو كونها رابطة وثيقة العُرى لا انفصام لها ، تتخذ مادة صحة الجسد وسلامته وقوته واحترام حاجاته التي تصون هيكله وتدعم نفسه مُنطَلقاً لا تحيد عنه ، وبين غايات مثلى نبيلة في مقاصدها تشذب خامة ذلك الجسد وتصقل بناءه وتمتن أركانه وتحرص على الراسخ من أساساته من خلال تعزيز الصحة فيه بكل أشكالها فلا تشرد فيه هائمة تتخبط على غير هدى، مكبة الوجه تقوده بحمق في غوير معتم سحيق قتال، لا لغاية سوى ما يعتري النفس من هزيمة وخذلان يحيله إلى غير ما كون له من نفع وخير وإعمار.
بل تبتسم للدنيا بروح وضاءة ملؤها الأمل، تغذيها دفقات من حُب للناس والخلق جميعاً، تشمخ بهامة منيرة التاج وطاهر القلب وصادق الناصية، لتستقبل الدنيا بثغر مفتر عن تفاؤل لا ينضب وحياة تسبح الخالق الذي سوَى فأبدع كمالاً وجلالاً.
وخلاصة القول: لا يجوز للإنسان العاقل الذي رسم له ربُّه خريطةَ طريقٍ مثاليةً لحياته كلها أن يفرِّط في حق من حقوقه البدنية والنفسية، ولا أن يُغلِّب جانباً على آخر، بل هو مُطالب بالتوازن والاعتدال.