بعد تجربتي الطويلة في الحياة، أعرف أن الأمور ليست دائماً كما تبدو للوهلة الأولى. أنا على يقين من أن معظم العرب يعتبرون أن #تبادل الأسرى بين إسرائيل و"حماس" هو صفقة جيّدة. فمن يستطيع أن يعترض على عملية مبادلة شاب هزيل وزنه حوالى 45 كيلوغراماً مقابل 1027 أسيراً فلسطينياً كان عدد كبير منهم يمضي عقوبة السجن مدى الحياة؟ تبدو صفقة رائعة . إلى أن نحلّل الدوافع والتداعيات.
أتفهّم تماماً فرحة العائلات الفلسطينية التي ترحّب بعودة الأب أو الزوج أو الابن أو الشقيق، أو سعادة الأسرى الذين أصبح بعضهم أحراراً خارج البلاد، لكن المشهد الأكبر يبدو قاتماً.
أولاً، لقد ساهمت عملية #تبادل الأسرى في تحسين صورة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشكل كبير بعدما كانت شعبيته قد تراجعت داخل إسرائيل وخارجها خلال العام المنصرم. لقد إشتكت الصحف الإسرائيلية من إجراء التلفزيون المصري مقابلة مع المجنّد الإسرائيلي المحرّر جلعاد شاليط من دون أن تعلّق سلباً على دعوة نتنياهو كاميرات التلفزيون الإسرائيلي لتصوير استقباله الحار للفتى المغمور الذي تحوّل شخصية مشهورة على الساحة الدولية. وذكر الإعلام الإسرائيلي أيضاً أن شاليط بدا شاحباً ويعاني من سوء التغذية، في حين أن الأسرى العرب بدوا بصحّة جيدة.
فإلى جانب تعزيز فرص نتنياهو بالفوز بولاية ثانية، فلقد أخمدت عودة شاليط أيضاً الاحتجاجات الداخلية على ارتفاع الأسعار. والأهم من ذلك، أظهرت القيمة التي تعلّقها إسرائيل على كل فرد من مواطنيها في حين أعطت انطباعاً بأن أرواح العرب رخيصة. وفي هذا السياق، أؤيّد ما ورد في مقال فيصل القاسم تحت عنوان "شاليط الإسرائيلي وشالوت العربي". فقد كتب متعجّباً من "الحماس العربي المنقطع النظير للإفراج عن شاليط الإسرائيلي، بينما لا يحرّك أولئك المسؤولون ساكناً من أجل إطلاق عشرات الألوف من "الشالوطات العرب" يقبعون في السجون الإسرائيلية الغراء وسواها من السجون" معتبراً أن "قيمة الإنسان العربي لا تساوي قشرة بصلة" بالنسبة إليهم.
والقاسم محقّ أيضاً في توصيف ما يجري بأنه مذل. فنقل عدد من الأسرى إلى بلدان أجنبية بدلاً من وطنهم الأم هو إذلال أخر، كما أن سجينتين على الأقل من 27 سجينة فضّلتا البقاء في السجن الإسرائيلي على العودة إلى غزة.
واللافت أيضاً هو الإفراج عن نسبة عالية من المسؤولين الكبار في "حماس" مع الاكتفاء بالإفراج عن أعضاء عاديين في حركة "فتح"، فضلاً عن عدم شمول التبادل أسيرَين فلسطينيين يتمتّعان بتأثير سياسي كبير، وهما المرشّح الرئاسي مروان البرغوثي الذي وصفه الكاتب الإسرائيلي يوري أفنيري بأنه "مانديلا فلسطين"، وأمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أحمد سعدات، الذي انتقدت منظّمة العفو الدولية محاكمته معتبرة أنها غير عادلة. وفي هذا الإطار، أعلنت "حماس" أنها تجنّبت الإصرار على الإفراج عنهما كي لا يؤدّي ذلك إلى إحباط الصفقة، لكن لا شك في أن بقاءهما في الأسر يحرم الساحة السياسية الفلسطينية من وجود منافسين جديين في أي انتخابات قادمة.
بغض النظر عن الإهانة، فلقد أضعفت صفقة التبادل ايضاً موقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي كان يسعى للحصول على #تبادل للأسرى منذ خمس سنوات لكنه فشل في ذلك، ويرجع ذلك بسبب المواقف المتصلّبة لنتنياهو وزعيم "حماس"، اسماعيل هنية. وها هي "حماس" تحيط نفسها الآن بهالة من المجد لنجاحها فيما أخفق فيه عباس، وتستمتع بالارتفاع الكبير في نسبة التأييد لها في غزة والضفة الغربية.
يبدو أن نتنياهو يفضّل التعامل مع أعدائه الإسلاميين اللدودين أكثر من الرجل الذي يصفه بأنه شريكه في #السلام. لا شك في أنه كان يعلم جيداً أن الصفقة ستعزز بشكل كبير من شعبية حركة "حماس"، وأنه يزيد، عبر موافقته عليها، من احتمال خطف جنود إسرائيليين آخرين في المستقبل لاستخدامهم في عمليات #تبادل في المستقبل. وبالفعل، لقد أعربت مجموعات مسلحة في غزة علناً عن رغبتها في أسر مزيد من أمثال شاليط.
قد تجدون أنه من الصعب فهم الطريقة التي يفكّر بها نتنياهو. لكن ثمة منهجية في جنونه. ففي الوقت الذي تتعرّض فيه إسرائيل لضغوط دولية شديدة للعودة إلى طاولة المفاوضات ووقف التوسّع الاستيطاني، يتعزّز نفوذ نتنياهو أكثر فأكثر كلما ساهم في وصول مزيد من القيادات الفلسطينيية المتشددة إلى مواقع السلطة. وإذا فازت "حماس" في الانتخابات المقبلة، يستطيع أن يؤجل عملية #السلام إلى ما لا نهاية بذريعة أن "حماس" تنظيم إرهابي من دون أن يثير حفيظة المجتمع الدولي له.
يكفي أن نتوقّف عند توقيت عملية التبادل. رفعت السلطة الوطنية الفلسطينية طلبها إلى الأمم المتحدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية عندما كان الرأي العالمي حيال إسرائيل يسجّل تراجعاً غير مسبوق، وعندما بدأ يُنظَر وأخيراً إلى الفلسطينيين بأنهم أصحاب حق وضحايا الاحتلال. بيد أن مشهد الجندي الإسرائيلي المصاب بالصدمة الذي يشبه ضحايا معكسرات الاعتقال عائداً إلى منزله في القرية الواقعة على رأس تلة فيما يقرع قادة "حماس" صدورهم ويمتدحون الكفاح المسلّح قد يُغيّر المعادلة.
في الواقع، لا نذهب بعيداً في خيالنا إذا قلنا إن هناك اتفاقاً ضمنياً بين إسرائيل و"حماس" للتوصّل إلى هذه الصفقة، لا سيما إذا تذكّرنا أن "حماس" هي في جزء منها من صنع الموساد الإسرائيلي تشكلت بهدف تقسيم الشعب الفلسطيني وإضعافه. قال المؤرّخ في الجامعة العبرية في القدس، زيف سترنال، "اعتبرت إسرائيل أن تأليب الإسلاميين على منظمة التحرير الفلسطينية هو حيلة ذكيّة". كما أن إدارة بوش عمدت إلى تأليب منظمة التحرير الفلسطينية على "حماس" عندما اكتشفت أن نتائج الانتخابات الشفّافة والخاضعة للرقابة الدولية والتي دعمتها بقوة مسبقاَ تتعارض مع المصالح الغربية.
والآن يستخدم نتنياهو التكتيك نفسه؛ مع فارق أن صديقه المعتدل عباس هو في الواقع العدو الأسوأ للخطط التوسّعية الإسرائيلية. لا تستطيع إسرائيل أن تتواجد كقوة احتلال عسكرية وعدوانية من دون عدو منظور بحيث يتمكّن المسؤولون من ترداد ذرائعهم المبتذلة عن "إسرائيل المسكينة". لا بد من أن نتنياهو ارتعد لدى رؤية الحفاوة الشديدة التي لقيها الرئيس عباس في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، لا سيما عندما أثارت كلمته تصفيقاً حاداً. ثمة أمر مؤكّد، لو وقف أحد زعماء "حماس" السياسين اسماعيل هنية أو رأس المنظمة خالد مشعل – وكلاهما في جيب طهران – أمام الجمعية العمومية، لفرغت القاعة ولم يبقَ فيها أحد.
وهكذا تتواصل لعبة النفوذ. فلدى "حماس" وداعمتها إيران وإسرائيل قاسم مشترك ألا وهو أنهم جميعاً لا يريدون #السلام. في الأفلام، ينتصر الخير على الشر عادةً؛ آمل فقط أن يتحلّى الشعب الفلسطيني بالحكمة الكافية ليكتشف الحيل التي تُحاك ضدّه وينحاز إلى جانب من يستحقوا فعلاً أن يمثلوه.