في حال نفذ قس جينسفيل بولاية فلوريدا، الذي لا يستحق أن يذكر اسمه، تهديده بحرق نحو200 مصحف بمناسبة مأساة 11/،9 يوم تم فيه الاعتداء على برجي التجارة العالمي في مدينة نيويورك، ويسعى القس الشيطان إلى تحريض آخرين على الكراهية بحرق مصاحف أخرى اليوم (السبت) . فإننا كمسلمين نؤمن بأن القرآن هو كلمة الله إلى الناس في الأرض وهو من عند الله . لقد أدى اعتزام القس الشيطان القيام بفعلته الشنيعة إلى استفزاز المسلمين وإثارة غضبهم فاندلعت مظاهرات الاحتجاج الغاضبة في اندونيسيا والهند وفي أماكن أخرى حيث يتواجد المسلمون . ولكن دعونا نضع العواطف جانباً للحظة لنضع هذا الموضوع في سياقه الحقيقي .
لا يسعى هذا القس المكتئب سوى لفت الأنظار إليه، ولعله يعاني من قضية أن يكون ضحية، ويتمسك بفكرة الشهادة زيفاً، وأنه على أتم الاستعداد للموت تحقيقاً لهدفه . ولعله يطمح من وراء كل ذلك أن يثير صراع الحضارات، في محاولة منه لخوض المعركة الفاصلة بين قوى الخير والشر، أو ما يسمى بأرمجدون، تلك المعركة الأسطورية الخيالية وذلك تهيئة للقدوم الثاني للسيد المسيح .
ولكنه على العكس يمكن أن تكون دوافعه نابعة من واقع هوس أناني مفرط لجلب المريدين والأتباع تيمناً بالقس جيم جونز الذي أمر أتباعه من “شعب المعبد” بالانتحار في غابات جويانا في أمريكا اللاتينية أو تشبهاً بقائد “بوابة السماء” الذي أمر أتباعه بقتل أنفسهم توطئة للانتقال إلى السماء على متن مركبة فضائية . والمؤكد أن هذا القس ليس بالتأكيد “رجل الله” ويبدو أنه غير مكترث بأنه يقود أتباعه إلى شر مستطير .
كل همّه، كما يبدو، هو تسليط الأضواء عليه وعلى أتباعه الخمسين في وسائل الإعلام . وقد نجح إن هو حيث أراد . ولم تبق وسيلة إعلامية في العالم مقروءة أو مرئية إلا وتحدثت عن مآربه، خاصة بعد أن حذر قائد القوات الأمريكية في أفغانستان ديفيد بترايوس من تبعات ما ينوي القس القيام به من استهداف للقوات الأمريكية هناك، وفي رأيه أن عمل القس سيؤدي إلى إثارة العواطف لدى الأفغان المسلمين وسيكون لعمله ردود فعل سلبية “ليس فقط في كابول بل في العالم أجمع” .
وما لبث البيت الأبيض والأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) وعدد آخر من رؤساء الدول والزعماء الدينيين أن ضاعفوا، بسبب مناشداتهم لوقف محرقة القرآن، من شعور القس الشيطان بمدى أهميته . وأكد مطران بريطاني أن ما ينوي القس الشيطان القيام به أثار فزعه عاقداً المقارنة بين ما ينوي القيام به وما فعله النازيون من حرق للكتب المقدسة عند اليهود .
ولكن الرئيس الأمريكي باراك أوباما رأى أن مثل هذه الأعمال ستؤدي إلى تنشيط عمليات التجنيد في صفوف تنظيم القاعدة . وقالت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون أن عمل القس “مثير للاشمئزاز ومريع” وأعربت عن أسفها إزاء الحجم الهائل من الاهتمام الإعلامي لتلك العملية البشعة .
نعم إنها على حق بالمطلق . والواقع فإن الهند بادرت إلى فرض حظر شامل على نشر القصة في وسائل الإعلام الهندية،ونتوقع أن تحذوا بلدان أخرى حذو الهند، خاصة تلك البلدان المهددة بتصعيد التوترات الطائفية والدينية .
خلال كتابة هذه الأسطر كان القس الشيطان لا يزال يؤكد تصميمه على القيام بفعلته وتحقيق هدفه على الرغم من احتمال أن يرضخ في النهاية للضغوط المحلية (في الولايات المتحدة) والعالمية . ولكن سواء مضى في غيه أم تراجع فالأمر سيان، ففعلته لا تختلف عن أي فعلة يقوم بها شخص يعاني من لوثة عقلية في إحدى المصحات النفسية . وهذا الرجل لا يتمتع بأية مكانة حقيقية من أي نوع، ولا يمتلك أي سلطان على أي أحد ولا يشكل أية أهمية، فهو في صريح العبارة إنسان تافه وأحمق . وبدلاً من أن يحتل العناوين الرئيسة في وسائل الإعلام، فإن مكانه الحقيقي هو إحدى المصحات العقلية التي تحول بينه وبين إلحاق الضرر بنفسه وكذلك أولئك المضللين الذين تعمي قلوبهم مشاعر الحقد والكراهية والجهلة الذين يودون اقتفاء أثره .
إن هذا الرجل يهدف من وراء جريمته أن تتفجر ردود فعل . فهو معتوه ليس له الآن سوى الاستمتاع بما تتحدث عنه الوسائل الإعلامية ولكنه سيشعر ببهجة أكبر عندما يرى المسلمين يلجأون إلى العنف وإلى أعمال انتقامية سيستخدمها علة وسبباً للإعلان من أنه كان على حق عندما تحدث عن الإسلام بتلك الصورة . والأمل أن يلجأ المسلمون إلى العقل والحكمة في ردود أفعالهم بدلاً من ترك الباب مشرعاً أمام مشاعرهم الغاضبة وانفعالاتهم العنيفة وتجنب الوقوع في الفخ الذي نصبه القس المجنون لهم .
ولعل أسوأ عقاب يمكن للمسلمين أن يلحقوه بذاك الشخص هو تجاهله بالكامل، وعندها سيجد نفسه وقد توارى في سراديب التجاهل، سيعود من حيث أتى . وذلك أن ردود الفعل العنيفة لن تلحق به أية أضرار، بل على النقيض من ذلك، سيرى في ردود الفعل دعاية له وسيرحب بذلك، أما نحن كمسلمين فقد وقعنا في أفخاخ مشابهة في الماضي .
فالكاتب سلمان رشدي ما كان لكتابه “آيات شيطانية” أن يشهد ذاك الرواج الكبير لولا أن الإيرانيين أصدروا فتوى بإهدار دمه . ولم تكن الرسومات الكاريكاتورية، لرسام دانماركي، والمسيئة لشخص الرسول (صلى الله عليه وسلم) الكريم، تلقى رواجاً أو ترى النور لولا ردود الفعل العنيفة والضخمة التي صدرت عن المسلمين في أنحاء المعمورة . والمؤسف أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل قررت منح رسام الكاريكاتور هذا جائزة ما يسمى “حرية الصحافة” .
علينا أن نركن إلى #المنطق والعقل، فهل يمكن لهذا القس الشيطان أن يهدد الإسلام ويلحق الضرر به بأساليبه المخزية التي ينوي القيام بها؟ لا شك أن مثل هذه النوايا لا تستحق إلا السخرية .
إن أصحاب الكتب السماوية الثلاثة الإسلام والمسيحية واليهودية ليسوا بحاجة لأن يقوم أي إنسان بالدفاع عنهم لأنهم جميعاً يؤمنون برب واحد، فإلههم واحد وهو حاميهم . وعلينا في مثل هذه الظروف تذكر كلمات الله تعالى في سورة “الحجر” (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) .
إن إيماننا متين، ولن تستطيع مواقف أو إهانات مثل هذه أن تهز عقيدتنا وأن تنال منها . ينبغي التعالي على الجراح وأن نواجه مثل تلك المواقف المخزية بإيمان راسخ وقوي . يمكنهم أن يحرقوا أوراقاً من القرآن لكنهم لن يستطيعوا أن يزيلوه أو يدمروه لأنه في أفئدتنا وعقولنا وستظل لصيقة بنا حتى يوم البعث، وسنظل أوفياء بقلوبنا وأرواحنا لكتابنا العظيم حتى يرث الله هذه الأرض ومن عليها