"#المعجزة" هي الكلمة التي غالباً ما يرددها كل من يزور الإمارات العربية المتحدة لأول مرة لوصف التطور السريع الذي حققته. ولا عجب في دهشة هؤلاء. قبل أقل من أربعة عقود كان الناس هنا يعملون في مهن تكاد تنحصر في صيد السمك واللؤلؤ والرعي والتجارة، أما اليوم فهم يتمتعون بمستويات معيشية عزَّ نظيرها. ولا أعني بذلك أننا لسنا فخورين بأصولنا وماضينا. بالطبع لا، صحيح أننا لم نكن نمتلك الكثير بالمعنى المادي للكلمة، ولكن لدينا الكثير الكثير على صعيد القيم العائلية والصداقة وكرم الضيافة والمبادئ الأخلاقية المتأصلة في نسيجنا الاجتماعي.
هذه القفزة السريعة تبدو معجزة بالفعل غير أنها كانت إنجازاً حققه شعبنا بالعمل والجهد. لقد حبانا الله الرحمن الرحيم برجلين غير عاديين قررا استغلال نعم الله علينا بحكمة وبعد نظر من أجل توحيد كلمة إماراتنا السبع معاً لتحقيق هدف مشترك يجمعها.
كان تحول قرانا وبلداتنا إلى مدن عالمية كبرى ثمرة مباشرة للرؤى المشتركة التي وضعها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والمغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم. لقد أدرك هذان الزعيمان الراحلان أن السبيل الوحيد المتاح للإمارات السبع التي تشكل اتحادنا البالغ من العمر الآن 38 عاماً لتحقيق التقدم هو أن تمضي فيه موحدة.
لقد أدركا أن في الاتحاد قوة ومنعة في وقت كانت الخصومات فيما بين هذه الإمارات شائعة وفي وقت لم تكن فيه القوى الكبرى قد تخلت بعد عن طموحاتها الاستعمارية، تلك الطموحات التي دفعت المنطقة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر للقبول بالحماية البريطانية.
لقد كان تاريخ بلادنا مادة للكثير من الكتب، غير أن ما قد لا يعرفه الكثيرون هو أن إحساساً عاماً بالتخوف والضعف ساد هذه الإمارات حينما أعلنت بريطانيا في 1968 نيتها الانسحاب من المعاهدات مع الإمارات المتصالحة. وما زلت أتذكر تماماً تلك المرحلة التي كنا خلالها عرضة لمشاعر القلق حتى رأينا علم الإمارات العربية المتحدة يرفرف في سماء بلادنا لأول مرة في 2 ديسمبر 1971 مبشراً بفجر جديد لنا جميعاً. ولكني لا أخفيكم أيضاً أننا لم نكن نتوقع حينها ذلك العمق الذي سيضربه حب ألوان هذه الراية في قلوبنا أو الذرى التي ستبلغها في عيون العالم.
حين أفكر بتلك المرحلة، لا أجد أنه كان لدينا بالفعل ما يبرر هذا القلق والتخوف. فالشيخ زايد والشيخ راشد كانا يعنيان بشؤون رعاياهما عناية الوالد الحريص على ألا يصيب عياله ضير. كان الزعيمان يملآن نفوسنا حماسة وثقة، جعلانا نؤمن بأنه ليس هناك من حلم بعيد المنال. كان الزعيمان نموذجاً للتواضع والعفو والانضباط والغيرية. وعن نفسي، كانت معرفتي بهما وأنا شاب في مقتبل العمر الملهم والحافز لي لأكون إنساناً أفضل.
الإنجازات التي حققها المغفور لهما الشيخ زايد والشيخ راشد كثيرة ولو أردنا الحديث عنها لملأت مجلدات. ويكفيك أن تتلفت ذات اليمين وذات الشمال لتشاهد الرؤية التي أرسياها وقد أصبحت واقعاً بالجد والعمل. ترانا اليوم ونحن كلنا اعتزاز وبهجة ونحن نرى ما في بلادنا من فضاءات خضراء وبنى تحتية ومؤسسات كبرى تتفوق على نظيراتها في العالم ومعاهد للعلم وبيئة تجارية منفتحة وفرص متنوعة للسياحة والترفيه. ولكن لولا ما أبداه مؤسسو هذه الدولة من إرادة، والتي سار على هديها أبناؤهم من بعدهم، لربما كانت الإمارات العربية المتحدة اليوم بقعة لا شأن لها على الخريطة.
بين الحين والآخر أصادف بعض قصار النظر الذين يقولون أشياء مثل "من السهل بناء دولة بمال النفط." لكن لا! هناك العديد من البلاد الأكثر ثراء غير أنها نتيجة لضعف مستوى القيادة أو الفساد الإدراي لم تحقق ولو جزء يسير من الإنجازات التي حققتها بلادنا. أما مؤسسي دولتنا فاعتمدوا منهجاً مختلفاً تماماً. وهذا ما عبر عنه الشيخ زايد حينما قال ذات مرة: "الثروة ليست هي المال، الثروة هي الإنسان..." لقد رأوا في هذا الوطن فرصا واعدة لشعب وضع ثقته فيهما فبادلاه حباً وانتماءً لهذا الشعب.
ولكي تزدهر هذه الأرض الطيبة وتزهر، لم يوفر الزعيمان أي مورد من الموارد المتاحة لهما من أجل ريها. ولهذا رأينا كيف كانت كل ثرواتنا الوطنية تسخر لبناء المدارس والمستشفيات وبنى أساسية عظيمة من موانئ وأحواض جافة ومطارات وغيرها. وكان منهجهما هو العمل الميداني المباشر. كنا كثيراً ما نرى الشيخ زايد وهو يقود مدراء شركات النفط في الصحاري في تلك الأيام الأولى فيما كان الشيخ راشد يجوب دبي بنفسه ويتفقد تقدم المشاريع ويتحدث مع الناس العاديين.
وكان الزعيمان يقودان البلاد بالرأي والمشورة. وقد نُقِل عن الشيخ زايد قوله "أنا لا أفرض التغيير على أي إنسان. ذلك طغيان. لكل منا رأيه وهذه الآراء يمكن أن تتغير. أحياناً نقارن بين كل أرائنا لنخرج منها بوجهة ونظر. هذه هي ديمقراطيتنا." وفي زمن لم يكن تعداد المواطنين برمتهم يتجاوز 200 ألف نسمة، كان مجلسيهما مفتوحين على الدوام في وجه أي إنسان يطلب المشورة أو المساعدة أو يريد عرض رأي.
في بداية الأمر كان شعورهما بالرضا يأتي من رؤية رغد العيش بين رعايا دولتنا، ولكن أياديهما البيضاء بدأت لاحقاً تصل كل من هو في حاجة. لقد وصلت هذه الأيادي البيضاء إلى كل بقعة من بقاع العلم تتعرض لأي كارثة دون أي اعتبار للدين أو العرق أو اللون. كل ما كانا يفكران به هو توفير المأكل والمأوى والدواء والمعيشة الكريمة للمحتاجين أينما كانوا في أرجاء هذه المعمورة.
كانت الإمارات العربية المتحدة، بفضل ما تتمتع به سياساتها الخارجية المتوازنة من احترام عالمي، وسيطاً تطلب الأطراف الدولية جهوده للتحكيم في النزاعات الإقليمية. ولم يكن من فراغ أن سمي الشيخ زايد "حكيم العرب."
لقد آمن الزعيمان الراحلان ببناء عالم مسالم، غير أنهما لم يترددا أبداً في الوقوف بجانب الأشقاء العرب حين يتعرضون للعدوان على نحو ما أكده الرئيس المصري السابق أنور السادات بعد حرب 1973 مع إسرائيل. وكانت الإمارات العربية المتحدة وما تزال أول من يهب لتقديم العون عند الكوارث الطبيعية أو تلك التي يتسبب بها البشر بأفعالهم كما نال مؤسسو هذه الدولة الكثير من الثناء والتقدير لأعمالهم واهتماماتهم الإنسانية في كل الدول النامية.
كل ذلك جعل الزعيمين الراحلين موضع حب أصيل لهما من جانب شعبهما وشعوب العالم الأخرى وهذا ما جعل عيون الناس في كل مكان تذرف الدموع على فراقهما. حين توفى الله الشيخ راشد في 7 أكتوبر 1990، وقف الوفود في الجمعية العمومية للأمم المتحدة دقيقة صمت حداداً على رحيله قبل أن تبدأ الدول الأعضاء فرادى تقديم كلمات التعازي. وفي 2 نوفمبر 2004، دعت الجمعية العمومية للأمم المتحدة لعقد جلسة خاصة نادرة الحدوث لتأبين المغفور له الشيخ زايد.
أنا أدرك تماماً أني أتكلم بلسان كل مواطني الإمارات حين أقول إننا كافة ما زلنا حتى اليوم نفتقد كثيراً هذين القائدين الذين أحاطانا بالطمأنينة والدفء في أيام كانت تثير أجواء غياب الاطمئنان حولنا. وإن كان الله قد اختار أن يغيبا عنا فقد عوضنا بنجليهما صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الإمارات العربية المتحدة حاكم أبوظبي وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء وحاكم دبي الذين يسيرا على هدي الراحلين في كل خطوة يخطوانها.
هذه البلاد، بلادي، هي اليوم دار أكثر من خمسة ملايين إنسان أتوها من كل أركان المعمورة ليعيشوا فيها بأمان ووئام وينعموا بثمار ثاني أكبر اقتصاد عربي. هي بلاد آمنة ومستقرة ومضيافة لكل من تحدوه الرغبة في أن يقدم ما لديه من موهبة مقابل الحصول على مستوى معيشي يحسد عليه.
قد يكون عالمنا الذي نعيشه اليوم بعيداً جداً عن ذلك العالم الذي ترعرع فيه مؤسسو دولتنا، غير أننا يجب ألا نبتعد أبداً عن القيم التي آمنوا بها. على كل المواطنين أن يضعوا هذه القيم في قلوبهم وأن يصونوا تراثهم وتقاليدهم لننقلها إلى أجيالنا المقبلة. هذا هو السبيل لتبقى تلك الروح التي ألهمت مؤسسي دولتنا حية ونابضة في بلادنا إلى ما شاء الله مثلما هي صور وجوههم ونبرات أصواتهم وصفاتهم محفورة في قلبي ما حييت.