ولدت على تخوم صحراء، في بيئة قاسية لا ترحم فحتى مياه الأرض الملوّثة ذات المذاق المر كانت شحيحة، وكان علينا جرّها يومياً من آبار حُفِرت في أماكن تبعد مسافات طويلة. لقد اختبر أبناء جيلي معنى العطش، وصعوبة إيجاد شجرة لنتفيأ ظلالها في أشهر الصيف الحارقة، فما بالكم بالوقوع على نبتة مزهرة نمتّع بها أنظارنا.
وكان الوضع في بعض دول #الخليج أشدّ سوءاً بعد. في مرحلة معيّنة، كان الغطاسون ينزلون في الينابيع الجوفية في البحرين لجلب المياه التي كانوا يضعونها في مستوعبات جلدية. ما زلت أذكر عندما كان يتم استيراد المياه وتوزيعها على المنازل في جالونات. وفي الكويت، كانوا يُحضرون المياه على متن المراكب الشراعية قبل أن يتم بناء مصنع لتحلية مياه البحر عام 1953. ولم يكن الوضع أفضل في قطر.
كانت سلطنة عمان الاستثناء؛ كانت مياه ينابيعها الجبلية الطبيعية تُنقَل إلى مدنها وبلداتها ومزارعها من خلال نظام الأفلاج المعتمد منذ زمن بعيد في الري، والذي يقي البلاد من الجفاف.
لم تصل المياه الجارية إلى المنازل في #دبي سوى في أواخر الستينيات عندما اكتشفت شركات الحفر خزاناً جوفياً من المياه النظيفة في العوير، وأنشئ نظام من الأنابيب الجوفية لنقل تلك المياه العذبة إلى المنازل. وبدأ محيطنا القاتم يتغيّر في السبعينيات مع إنشاء محطة معالجة مياه الصرف الصحي يُنتج مياهاً غير صالحة للشرب تُستخدَم في ري الحدائق الأولى في #دبي، عندما كان السكّان يُشجَّعون على زراعة الحدائق.
لو قال لي أحدهم في ذلك الوقت إن بلادي وسواها في شبه الجزيرة العربية كانت مغطاة قبل آلاف السنين بالغابات المطرية والبحيرات والنبات المورق، لما صدّقته. لقد تسبّب تغيير تدريجي في المناخ بحرماننا من الماء، أساس للحياة.
لقد بات موطني، #الإمارات العربية المتحدة، مختلفاً تماماً اليوم بفضل السياسات الواعية التي انتهجها الآباء المؤسسون الذين لم يبحثوا فقط عن طرق للقضاء على العطش، بل حرصوا أيضاً على تحويل صحرائنا إلى أرض خضراء.
هذ التحوّل المذهل حصل بإيحاء من رئيس دولة #الإمارات حاكم أبوظبي المغفور له #الشيخ_زايد بن سلطان آل نهيان. كان يطمح إلى رؤية الصحراء تزدهر من جديد في وقت كان الناس يعتبرون أنه حلم بعيد المنال. فزرع أشجاراً على امتداد آلاف الكيلومترات، وكان يتم ريّها بواسطة المياه الجوفية، وأنشأ أحزمة خضراء حول البلدات التي أنشئت والمزارع، وسوّى الكثبان الرملية بالأرض، واستخدم التكنولوجيا لزيادة توافر المياه الجوفية إلى أقصى حد، وشيّد محطات لتحلية مياه البحر.
ولعل جزيرة صير بني ياس التي كانت أرضاً صحراوية من قبل تختصر إرثه البيئي، فهي تضم الآن منتزه الحياة البرية العربية الذي يمتد على مساحة 87.5 كيلومتراً مربعاً، حيث يعيش أكثر من عشرة آلاف نوع حيواني مهدّد بالانقراض بمأمن من الخطر، ولذلك غالباً ما يُشار إليها بإسم "جزيرة سفينة نوح".
اليوم، أصبحت كل مدينة في #الإمارات العربية المتحدة ملاذاً بيئياً مع طرقات محفوفة بالاشجار، ومنتزهات، وحدائق، ومروج، وتجهيزات مائية، وبحيرات، وقنوات، ومنتزهات مائية، وبعض من أروع النوافير في العالم. في الوقت عينه، تدرك الحكومة أهمية الحفاظ على البيئة، وتطبّق إجراءات حازمة لمكافحة الهدر.
تؤمّن محطات تحلية المياه نحو 99 في المئة من الموارد المائية في #دبي، مع الإشارة إلى أن أكبر هذه المحطات، "محطة إم" في جبل علي، لها القدرة على إنتاج 140 مليون جالون من المياه يومياً فضلاً عن 2060 ميغاواطاً من الكهرباء. تُستخدَم المياه التي تنتجها مصانع تكرير مياه الصرف الصحي حصراً في ري المساحات الخضراء.
وقد افتتحت رأس الخيمة هذا العام مصنعاً ريادياً لتحلية مياه البحر بالتناضح العكسي، ووقّعت شركات في العاصمة أبوظبي تتطلع إلى استخدام الطاقة المتجددة، عقداً بحثياً مع شركة "جي دي إف السويس" لدراسة جدوى استخدام الطاقة الشمسية بنسبة مئة في المئة لتحلية مياه البحر.
على الرغم من أن مياه الصنابير آمنة تماماً للشرب، بحسب مجموعة #الإمارات للبيئة، يفضّل معظم السكان تركيب نظام تصفية المياه في المنزل، أو الاعتماد على المياه المعدنية المعبّأة إما لأنهم قد يجدون مذاقها أفضل أو بدافع العادة.
المياه المعبّأة تجارة مزدهرة في #الإمارات؛ يستعملها كثرٌ لتحضير القهوة أو الشاي أو حتى في الطهي. تستخدم شركات التعبئة المحلية مياهاً معدنية من المناطق الجبلية في إمارة الفجيرة أو آبار العين، أو مياه البلديات المكرَّرة. تصدّر الشركات الإماراتية 58 في المئة من المياه المعبّأة في دول مجلس التعاون الخليجي. لكن يمكن أن نجد على الرفوف في مراكزنا التجارية مختلف أنواع العلامات الأجنبية من المياه المعبأة.
في مناطق كثيرة من العالم، يُعتبَر فتح صنبور المياه من المسلّمات. كما أنه أمر طبيعي بالنسبة للناس أن يستحمّوا ويقوموا بري حدائقهم يومياً. أما نحن الإماراتيين فنقدّر قيمة المياه أكثر من الأمريكيين والأوروبيين لأن كثراً بيننا اختبروا عن كثب العيش من دون مياه، عندما كان مجرد غسل وجوهنا لإزالة الغبار عن عيوننا يُعتبَر ترفاً.
حمداً لله أن أولادنا وأحفادنا لن يختبروا ذلك أبداً، لكن هناك الملايين في مختلف أنحاء العالم الذين لم يحالفهم الحظ مثلنا. أعلم أن صاحب السمو #الشيخ_محمد_بن_راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم #دبي، يدرك هذا الواقع المؤسف، لأنه يتذكّر مثلي كيف أثّر الحرمان من الماء في حياتنا عندما كنا يافعين.
العام الماضي، أطلق صاحب السمو الشيخ محمد حملة "سقيا #الإمارات" التي هدفت إلى إغاثة خمسة ملايين شخص حول العالم بالمياه عن طريق تكنولوجيات جديدة ومصانع تحلية المياه بواسطة الطاقة الشمسية؛ وقد حققت الحملة نجاحاً كبيراً تخطّى الهدف المنشود، مع تمكّنها من جمع مبالغ كافية لمساعدة سبعة ملايين شخص يعانون من العطش، وليس فقط خمسة ملايين.
لم تعد صحراؤنا عبارة عن أراضٍ قاحلة ومغبرّة، بل تحوّلت معلماً يستقطب السياح للاستمتاع بالقيادة عبر الكثبان الرميلة أو التخييم تحت ضوء النجوم. يكفي أن أتنقّل في بلادي وأشمّ رائحة الهواء المعطَّر بشذا ملكة الليل لأشعر بالامتنان لسخاء الله تعالى وللحكمة الفائقة التي تحلّى بها حكّامنا الاستثنائيون الذين ساروا بنا في أيام المحنة السوداء للوصول إلى النور الذي لا يشعّ علينا وحسب إنما أيضاً على الخارج مضيئاً المنطقة وأبعد منها.