كنا دائما على موعد معه ... ولم يحنث، في لهيب الصحراء ووسط قساوة الرمال ... مع مجافاة الطبيعة، وفي كل مكان كان يبر بوعده وكان الوعد، اليوم غاب عن فجر الإمارات أحلى ما في الفجر، بل غاب عن الامارات فجرها ...
كان ألق الصحراء التي تحولت الى حاضرة، بل الى أجمل الحواضر، كان وعد الكفاح ومسيرة الرمال الذهبية التي جبلت بعرق الرجال ...، فأمست وفي لحظة ساطعة خيرة ... مواطىء العطاء واليمين والبركات، والحضارة المتكئة الى تراث عملاق ...
هل ترجل الفارس العربي ... أم إنه في لحظة شوق وحنين متنام الى وجه ربه، هو ذلك الحلم الذي ما تعود الرحيل بلا إستئذان ... ولكنه لبى نداء الحق النهائي في لحظة إطمئنان وكان قد أيقن أن عودنا قد أصبح صلباً، وأن وحدتنا قد أصبحت نهائية، وأننا بلغنا سن الرشد ...
ألم يكن يدري، أننا ما زلنا بحاجة ماسة اليه ... ألم يكن يدري، حين أسلم الروح للخالق العظيم أننا نعشق الطفولة بين يديه، ونأبى أن نغادر مطارحنا إلا لندور حوله، نستسقي الحكمة من كلماته، ونتعلم العطاء من توجيهاته، والتضحيات من مسيرته ...
هل أغمض عينيه وأسلم الروح، وكان واثقاً أن رسالته قد إكتملت، وأنه أنجز مهمته على أكمل وجه. ربما للمرة الاولى، لم يأخذ في الحسبان كم نحبه، كم نفتقده، وكم هو قاس ذلك الشعور الذي يلفنا، بأننا للمرة الأولى، نكمل نحن جيل زايد، وجيل راشد، الرحلة بدونهما. برحيله ... سقط من الروح بعضاً منها، ونزف القلب أغلى ما عنده وعم النفوس الحزن الكبير.
مكلومون ... ثكلى ... نحن ... لا طاقة لنا على هذا الفراق ... لو كنا ندري ... إنك ستغادر، لوضعناك في دواخل العيون، وأقفلنا أشفار المقل عليك الى الأبد، لتبقى الأب ... والقائد ... وعظيم هذه الامة.
يا أغلى الرجال ... يا زايد ... هل نرثيك ... وقد علمتنا أن الرثاء هو فعل نافل ... هل نبكيك وقد ربيتنا على مسلمات تؤكد أن دموع الرجال عزيزة وغالية، ويجب أن لا تذرف، بل يجب التسليم بقضاء الله برضى تام.
إنه الحزن الكبير، أصاب منا موجعاً، لكننا وسطه، في دوامته، أستمحيك عذراً أيها الكبير، أستمحيك عذراً أن أذرف دموعاً غزيرة، وأن أخرج وربما للمرة الأولى عن تعاليمك ... فالرجال ... الرجال يبكون أيضاً عندما يكون الراحل هو تاريخهم وصانع وحدتهم ونهضتهم.
لقد أخذك عشق الارض ... الى الارض ... فتركت الحياة الدنيا الى الحياة الآخرة ... وعلى جبينك الوضاء علامات رضى متمادٍ فالمهمة التاريخية قد إكتملت بدقة، والزرع قد أينع، والسنابل تحمل القمح الوفير، والدولة ... دولة الوحدة قد رست على قواعد متينة.
عزاؤنا فيك أن خليفتك ... الخليفة ... وأخوانه جميعاً، سيكملون المسيرة ... مسيرة الخير ... والعطاء والتضحيات ... عزاؤنا فيك أن القيادة في أيد أمينة، واعية، حكيمة، متمرسة ... وأن خليفتك هو على قدر التحدي والمسؤولية، والشفافية المطلقة، والسمو المتكامل.
عزاؤنا فيك ... أنك باق معنا ... باق فينا وإن السفينة في عهدة ربان يشكل إستمرارية لنهجك العظيم ...
حيث أنت ... في جنات الخلد ... أستأذنك لأقول كلاماً، ما كنت لأقوله بحضورك الآسر، خشيةً أن أسيىء الى ذلك التواضع العربي الأصيل لديك في الحديث عن إنجازات عظيمة لطالما إعتبرتها أنت واجباً وطنياً وقومياً، إلا أنها بالنسبة لنا هي مدعاة فخر وإعتزاز بأن يخرج من بيننا قائداً لينير سماء العالم العربي والإسلامي.
فلتسمح لي روحك الطاهرة، المتوادعة أن أتكلم عنك ... ولك في غيابك، وفي حضرة الأمة التي حققت لها إنجازين وحدوييين، وربما قد يكونان آخر وأرسخ الوحدات العربية.
ففي حياتك أنجزت وحدة الإمارات العربية السبعة، هذه الوحدة الراسخة التي قامت على أسس العطاء والتضحيات والديمقراطية الحقيقية، وهي أول وحدة عربية، ونتطلع بحرقة كي لا تكون آخر وحدة، وفي رحيلك حققت وحدة المشاعر العربية ووحدة الحزن العربي لشعوبنا التي بكت بلوعة وبحسرة من #روابي_لبنان ... الى #وهاد_فلسطين ... الى شوارع #قاهرة_المعز ... الى آخر مدينة في العالم الاسلامي، لم تتوانى عن تلبية نداء الواجب تجاهها.
في الحديث عن زايد، تبدو المهمة مريرة وصعبة ... مريرة لأنه لم يعد معنا وصعبة نظراً لشمولية وجسامة الإنجازات التي شكلت حياة وتراث زايد بن سلطان آل نهيان، إلا أنني سأتحدث عن دور الراحل في بناء الإمارات ودوره العربي، ودوره الدولي والإسلامي.
على الصعيد الوطني:
باكراً إمتشق زايد هموم وطنه، وإعتنق رسالة أرضه، كانت تؤرقه تلك "الحدود" على الرمال الطاهرة في إماراتنا الحبيبة، وكان يرى فيها شبح الحدود والأسلاك العربية التي تباعد وتشرذم أنحاء الأمة عن التلاقي والتفاعل والتواصل، لذا وضع نصب عينيه تحقيق وحدة الدولة مع رفيق دربه ومسيرته راشد.
بعد تحقيق وحدة الدولة، كان أمام الراحل الكبير تحديات جديدة منها الصحراء المتمادية مع ما تسقطه من شظف العيش، وقلة الموارد، بالإضافة الى حياة الكفاف، والتقنين التي كانت ترخي بثقلها على العائلة الإماراتية، لقد استطاع الراحل تحويل الصحراء ... الى واحة خضراء، وحول الفقر الى غنى، وبمسيرته العصامية الملتزمة صنع شخصية المواطن الإماراتي، وأكد على ضرورة وحتمية إحترام المواطن، وإحترام الوطن.
كان العطاء عند الراحل هو عطاء بلا مقابل، وأشدد أنه لم يكن يتوقع أو يريد أي مقابل لعطاءاته، وكان وما زال يتقاسم ثروة أبو ظبي وخبزها وخبراتها وغناها مع القريب والبعيد.
وبنظرته الثاقبة، بالذكاء الفطري الذي كان يقود خطواته، أيقن أنه لا بد من تنويع مصادر الدخل القومي، هذا الهم الذي كان يعتبره مسألة توازي في أهميتها الأمن الوطني نفسه، وهو الأمن الإقتصادي، لذا إندفع لخلق موارد جديدة بالإضافة الى النفط، للحفاظ على المستوى الإجتماعي والإقتصادي اللائق لأهلنا في الإمارات.
وأكد زايد أن مجتمع الرخاء والغنى هو لخدمة الإنسان وليس العكس، فلقد آمن الراحل بهذه القاعدة وكرس الثروة في صنع السلام ... السلام الدتخلي ... وسعى نحو سلام عالمي بكل ما يملك من إمكانيات.
على الصعيد العربي:
منذ حداثة سنه، ومنذ أن كان يانعاً آمن الراحل بالوحدة، وحدة العائلة، وحدة القبيلة ... وحدة الوطن ... وحدة الأمة، وأكد زايد هذا التوجه، في سعيه الدؤوب، وفي رحلته الطويلة رغم المصاعب لتحقيق وحدة الإمارات، لتكون خطوة، أو إشارة، أو بداية، للوحدة الكبرى، وحدة العرب، لم ينتظر سقوط الأسلاك، والأشواك، والحدود الكيانية المصطنعة التي تشرذم أوصال الوطن، لم ينتظر بل اندفع نحو وطنه العربي يدعم صمود أهلنا في فلسطين، ويعزز لديهم متطلبات البقاء والإستمرار، ويخفف عن لبنان الكثير من معاناته، وفي إندفاعته القومية، لم ينسى إقامة أحياءاً كاملة للفقراء في القاهرة، ولم ينسى السودان، أو أي منطقة عربية أخرى نادته فأجابها، وأحتاجته فلباها، بل كان السباق، المبادر، الذي يعفي المحتاج من ذل السؤال وأعيد التأكيد والتشديد وبدون مقابل ... لم بيتظر الراحل حمداً أو شكوراً، لأنه كان يؤكد أن الشكر لله، والحمد لله وحده وإن البشر يؤدون وظائف إرتضاها الله لهم.
أيضاً وفي المواقف القومية، كان النصير، والعضد والمؤازر للحق العربي، وكان المبادر دائماً الى رأب أي تصدع في الموقف القومي، كان حريصاً على وحدة الموقف لذا كانت الإمارات أول دولة عربية تعيد علاقاتها مع مصر حرصاً على إحتضان شعب مصر، وأهل مصر، وإيماناً بدور مصر في صنع التوازن الستراتيجي والسياسي في المنطقة، وكان الراحل قد أطلق المبادرة الجدية الوحيدة قبل حرب العراق الأخيرة حين طلب من صدام حسين التنازل عن السلطة صوناً للعراق وحفظاً لشعبه، كان الراحل الكبير وطنياً حتى الجوارح، وقومياً ملتزماً بالفعل، وبالممارسة، وليس بالشعارات، وأكد ذلك في إعلانه الشهير بعد حرب أكتوبر 1973 أن البترول العربي ليس أغلى من الدم العربي، وبادر بعدها الى قطع النفط عن الدول الغربية التي كانت تؤازر العدوان الإسرائيلي على الأمة العربية.
على الصعيد الدولي والإسلامي:
أكد الراحل على ضرورة مؤازرة القضايا الإسلامية المحقة حيثما كان، وفي كل زمان، وأكد على ضرورة مد يد العون الى كل مسلم محتاج في أنحاء الأرض، لذا كانت عطاءاته لا تقف عند حدود قارة أو منطقة، فلقد آمن زايد بضرورة تأكيد هذا الدور الحضاري الحواري للإسلام وصولاً نحو إسقاط تلك التشوهات التي ألحقها بالدين الإسلامي بعض خوارج العصر.
لذا بكته غزة، بحسرة ولوعة وكان حزنها كبيراً على الرغم من قلقها على عرفات نفسه، بكاه لبنان، وبكته مصر وسوريا والسودان، والمغرب العربي ودول آسيا الإسلامية وأوروبا ودول الخليج العربي، وكل الأنحاء التي وصلت إليها أيادي الخير والبركة التي كان يمدها الراحل الكبير إيماناً منه بدور شعبنا في تأدية رسالة عطاء وتضحية.
وليس سراً أن دولة الإمارات العربية المتحدة كانت السباقة الى الدعم المادي والمعنوي والسياسي لقضايا المسلمين في كل أنحاء العالم، وأستطيع القول أن زايد لم يتردد في دعم أية قضية إنسانية مهما كانت هويتها الدينية.
في الحديث عن الراحل، تتألق الكلمات، وتبدو إنجازاته بلا نهاية، وقد لا تستوعبها أزمنة ومراحل، إلا أننا وفي هذه اللحظات التاريخية بالذات، لحظة ما بعد زايد في حياة الإمارات العربية المتحدة، نريد أن نؤكد للعرب، كل العرب ما يلي:
إن مسيرة زايد مستمرة، وإن خليفته قد نشأ وترعرع وتمرس، وتجرب في مناخات العطاء نفسها تحت عباءة الراحل الكبير، وإن دولتنا بأيد أمينة، وفي ظل قيادة واعية، مدركة، رحبة، غرقت من معين الراحل الكبير ما يؤهلها لقيادة السفينة بكل دراية، فالخير يؤتي ثماره مواكب العز تسنظل ماضيها ... ونحن على العهد ... مستمرون على العهد الى جانب خليفة، كما كنا الى جانب زايد وتحت قيادته الحكيمة فهو لم يكن حاكماً والحكام كثيرون ولكنه كان زعيماً وقائداً وأباً وراعياً.
الى مثواك الأخير، أيها الأب، نشيعك بالأهداب، وبحبات القلوب، وعتبات الذاكرة، ترفعك إبتهالاتنا، ويواكبك عشقنا، ونشيجنا المكبوت يضارع العواصف العاتية: على العهد ... عهد الرجال.
إلى زايد ... لا نقول وداعاً ... بل أن اللقاء سيتجدد مع كل نسمة رطبة، تتهادى في سمائنا ... مع طلوع كل فجر ... ومع كل أصيل ... مع كل حبة رمل ... مع ترقرق البحر ... مع حفيف الأغصان ... مع إطلالات الأمل ... ستبقى ... ستبقى ... ستبقى ... دمعة في المقل لا تبوح بأسرارها العميقة، ولا تبارح دائرة العنفوان والعزة والكرامة.
الى الخليفة .. والى أخوانه نقول ... أن وعد الوفاء ... هو وعد الرجال ... سدد الله خطاك لقيادة مسيرة الوطن والأمة ... وسط هذه المبايعة التاريخية.