يتضح بالملموس أن ما يجري في المنطقة الآن هو سيناريو مكتوب بدقة وإحكام، وبأقلام خبراء في هذا المجال التخطيطي يمتهنون، ويعايشون هذا الشأن منذ سنوات طوال، مرات كان الهدف واحد، والوجهة واحدة، والمخطط واحد، والإستهداف واحد، إلا أن السيناريو خضع لبعض التعديلات، بما يخدم الإستراتيجية الأساسية، وبما يؤكد ما يحدث في العالم بأسره.
هذا السيناريو، وضع بهدوء، بأعصاب باردة، بشمولية قلّ نظيرها، ولم يترك حتى للتفاصيل الصغيرة أن تغيب عن مدى رؤيته وحساباته التي لم تترك شاردة أو واردة إلا وأخذتها بعين الإعتبار، سعياً نحو عمل شامل، متكامل، لا مجال فيه للأخطاء، أو للمفاجآت.
دولياً، وبنجاح منقطع النظير، تطابقت حسابات الحقل مع حسابات البيدر، فعلى الأقل نظرياً، ومن حيث الهدف العام إنتهت المرحلة الأولى من هذا السيناريو، وكان سابقاً قد تم وعبر الإدارات الأمريكية المتعاقبة إختيار الممثلين أو المنفذين وتم توزيع الأدوار عليهم. دعوني أبادر إلى توضيح ماهو قائم فعلاً عن وجود إدارات أمريكية متعاقبة، وذات إنتماءات متباينة، وهذا صحيح، إلا أنه قطعاً هناك سياسة أمريكية ثابتة لهذه الإدارة، سياسة ثابتة وربما تكون غير مكتوبة إلا أنها وبالتأكيد يتم تنفيذها بشكل حديدي وهي تقوم على مراعاة المصلحة الأمريكية العليا فقط دون أية إلتفاتة إلى مسائل هامشية أو جانبية.
إذن تتغير الإدارات، إلا أن السياسة واحدة، والإستراتيجية واحدة وثابتة، كائناً ما تكن الإدارة أو شكلها، أو ماهيتها، أو كائناً من يكن الشخص أو الرئيس الذي عليه أن يلتزم بسياسة الدولة العليا التي تعتبر بمثابة الدستور النهائي. السياسة الأمريكية، أو السيناريو الأمريكي للعالم، قد عدّل أكثر من مرة بما يتلاءم مع المرحلة المعنية إلا أن عناوينه الأساسية يمكن الحديث عنها وفق جدول كان يهدف الى خلق مناخات، أو مساحات تدخل، أو محاصرة مناطق خارجة عن السيطرة الفعلية والمباشرة لهذه السياسة.
إن تـفنيد السياسة الأمريكية الإستراتيجية بإسهاب في هذه المقالة قد تقتضي منا مجلدات، ولسنا بهذا المقام، ولا بهذا الصدد راهناً، إلا أننا سنتطرق إلى الحديث عن الربع الأخير من القرن الماضي؟ حيث كان الهدف الأمريكي الفعلي في العالم يتمحور حول جدول الأولويات التالية:
شرق أوسطياً وعربياً:
حماية إسرائيل، وإستعمالها كموقع متقدم للغرب وسياساته، وكهراوة يمكن اللجوء إليها كلما دعت الحاجة (ضرب الأنظمة الوطنية كالحرب على القائد العربي جمال عبدالناصر، منع تواصل المشرق العربي مع شمال أفريقيا العربي عبر توسيع رقعة الإحتلال الصهيوني) ولاحقاً إحكام السيطرة على منابع النفط العربي في الخليج (تداعيات حرب العراق، تداعيات حرب الخليج الأولى والثانية)، وبالتالي إستنزاف الثروات العربية والمقدرات العربية، بما يمنع قيام مجتمع عربي آمن، وكفي، وذو إحاطة تامة بمقدراته الإقتصادية والبشرية.
دولياً:
سعت الولايات المتحدة باكراً إلى محاصرة شبه #التوازن_الدولي الذي كان قائماً بوجود الكتلة الشرقية، وبطبيعة الحال، وبدون الغوص في تفاصيل مملة لا تقدم ولا تؤخر، أقول وأؤكد أن هذه الكتلة كانت تحمل عوامل سقوطها وإنهيارها بين ظهرانيها؟ في معظم خطواتها، وخططها، ورؤاها السياسية والإقتصادية، إلا أن السيناريو المحكم الذي وضع لإسقاط هذه الكتلة عجل في تآكلها، ووأدها الى غير رجعة على ما يبدو واضحاً وجلياً.
طبعاً ثمة ثغرات، على المستوى الدولي، ثمة ثغرات، لم تتخذ الوضعية الصاغرة نهائياً، للسيناريو المبرم، إلا أن هذه الثغرات آخذة في التساقط، وآيلة إلى الإنحسار بفعل حديدية التنفيذ ودقته.
كل شيء يسير على إيقاع أمريكي، ووفق السيناريو المكتوب بعناية وكل مشارك، سواء كان دولة أو شخص، أو تنظيم، أو مجموعة، كل يقوم بدورة في تناسق تام، وفي إتساق ممض وموجع، وتم تأدية الأدوار كما وزعت على الجميع, ولقد كان للعرب في هذا السيناريو دوراً مبدئياً هو التفرج والتصفيق لهذه المسرحية دون أن يفقهوا الكثير من فصولها، وبدون أن يعوا إلا القليل عن كواليسها، ودوراً فعلياً هو تمويل هذه المسرحية الدولية ذات الكلفة العالية التي وصلت أو ناهزت الآف المليارات الأمريكية، سددت من اللحم العربي الحيّ، من الثروات والقدرات العربية.
ليس سراً، لا نكشف ستراً أو حجباً، إذا أشرنا إلى أن البطولة المطلقة في هذه المسرحية كانت ولم تزل للولايات المتحدة الأمريكية دون إسقاط أدوار، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، الإتحاد الأوروبي، روسيا، الصين، إسرائيل، ودون إغفال بعض أدوار الكومبارس التي لعبتها بعض دول #أمريكا_اللاتينية. وللأسف كان لنا نحن العرب الدور الكبير في ترويج ورصد مبالغ كبيرة لتشجيع هذه المسرحية.
هذه المسرحية هي مرحلة أولى من سيناريو كبير آخر، تتم كتابته راهناً في دوائر سوداء وفي ردهات مغلقة، بحيث يتم التخطيط لمصائر الدول والشعوب بمعزل عنها، وبعيداً عن مصالحها الفعلية.
خاتمة، لا أريد المبالغة في سوداوية عبثية، ولا أريد في الوقت عينه الترويج لمرحلة زهرية في العلاقات الدولية، كل ما أردته عبر هذه المقالة هو التفكير بصوت مرتفع، ومكتوب، وجعل هذه الأفكار مقدمة لتداول المعطيات والأفكار حول هذا العالم الذي نشكل جزءاً منه، ولا ننوي التخلي عن خصوصياتنا الوطنية والقومية فيه، أو التنازل عن ضرورة العدالة والتوازن في علاقات الشعوب والدول بعضها ببعضها الآخر.
هذه المقالة، هي نوع من الإضاءة على جوانب موجودة أصلاً في السياسة الدولية، وليس إكتشافاً لها، أو تكريس لقواعدها، إنها مجرد إشارة الى واقع قائم وليس تحليلاً لأية إتجاهات أخرى، سوى إتجاهات المحافظة على خصوصيات الشعوب وحقها في تقرير مصائرها ضمن مجتمع دولي قائم على العدالة والحرية والمساواة.