المكان: ضاحية في لندن - بلدة صغيرة في قلب الريف الإنكليزي قرب وادٍ جميل. الزمان: عطلتي في هذا الصيف 2004
كنت برفقة أربعة أصدقاء في منزلي المتواضع في الغابة القديمة. كانت رائحة الصنوبر ساحرةً، عزاءً جميلاً لخمسة عرب يحاولون أن ينسوا، لبرهة، الواقع البائس للعالم العربي.
لسوء الحظ، لم يكن ذلك ممكناً أبداً. لا يمكن الانسحاب من العالم الحقيقي، أو الهجرة من الواقع، أو الهروب من التحدّي اليومي، تحدّي الصمود في فلسطين المحتلة، أو تحدّي الأرض المحروقة في العراق.
نحاول من وقت لآخر، نحن أبناء الجيل العربي الذي أُحبِطت آماله، أن نجد فسحة للفرح، ولمسة عزاء. نجرّ أنفسنا بعيداً جداً إلى ظلال بعيدة، أو إلى رمال متوهِّجة للتخلّص من هذا العبء الفكري، إنما من دون جدوى. تطاردنا أزمتنا كما الظل، تسكن حقيبة سفرنا، وتسخر من هذه المحاولة للهروب التي سرعان ما تفشل.
كنت قد دعوت مجموعة من الأصدقاء الإنكليز للانضمام إلينا، وقد تناولت نقاشاتنا في شكل عام مواضيع اجتماعية وسياسية.
لم أعد أتذكّر بالضبط ماذا كان موضوع الحديث بالتحديد عندما سأل أحدهم عن عدد الدول العربية التي تملك منظومة اجتماعية تقدّم مساعدات حكومية لعائلات المواليد الجدد. وكان يقصد بذلك المساعدات المالية لتمكين العائلات من تلبية الحاجات الإضافية إلى جانب #الرعاية_الصحية، لأن الحكومة تؤمّن هذه الخدمة مجاناً، ليس فقط لمواطني المملكة المتحدة، إنما أيضاً لجميع المقيمين في البلاد.
أقرّ بأنني تظاهرت في البداية بأنني لم أفهم السؤال، لأنني أردت سماعه من جديد. وقد كرّره ضيفي ببطء، بطريقة روبوتية، مشدّداً على عبارة "عندما يرى طفل النور".
أثار السؤال الذي ورد بلهجة أقرب إلى الاستجواب والمناورة، اهتمامي، فسألت الضيف إذا كانت هذه السياسة تُطبَّق في المملكة المتحدة.
قطّب ضيفي حاجبَيه بعدما أصغى إلى ما قلته، وأكّد باللهجة الهادئة نفسها التي يتميّز بها الإنكليز، أن الحكومة البريطانية تدفع للأسر 60 جنيهاً استرلينياً في الشهر عن كل ولد. ويبدأ العمل بهذا الإجراء منذ يوم ولادته حتى بلوغه السادسة عشرة من العمر، بغض النظر عن عدد الأولاد في العائلة.
بالطبع، لا يعني هذا أنه ليست للحكومة أي واجبات تجاه هؤلاء المواطنين بعد سن السادسة عشرة، بل هناك مسؤوليات أخرى تترتّب عليها، إذ توفّر لهم التعليم والرعاية الصحية مجاناً، وتحاول استحداث وظائف جديدة. فضلاً عن ذلك، هناك مؤسّسات مكلّفة تقديم النصائح والإرشادات للأشخاص لمساعدتهم على اختيار المهنة المناسبة لهم، وتوجيههم نحو الاختصاصات الأكاديمية التي تحتاج إليها سوق العمل.
ناهيك عن نظام الضمان الاجتماعي لكبار السن والمؤسّسات التي تعنى بتأمين الرفاه لهم. وهذا ليس سوى غيض من فيض الخدمات التي تؤمّنها المملكة المتحدة وبلدان أخرى تسهر على تلبية حاجات شعوبها.
ولم يكد ضيفي الإنكليزي ينهي ملاحظاته العامة عن النُظم الاجتماعية الأوروبية حتى بدأت أعرض المشهد المعاكس في الجزء الأكبر من العالم العربي.
بادئ ذي بدء، أبديت إعجابي الكبير بهذه السياسات التي تهدف إلى حماية الشعب من الفقر وعدم الأمان الاجتماعي.
ثانياً، أعربت عن غضبي الشديد من الأوضاع الاجتماعية المتدهورة في معظم البلدان العربية. فعلى الرغم من الثروة الهائلة التي تتمتّع بها بعض الدول العربية والموارد الطبيعية الضخمة التي تزخر بها الأراضي العربية، لا تُفيد غالبية الشعوب العربية من نظام الضمان الاجتماعي، ويتملّكها الخوف مما يخبّئه الغد. ولذلك يستاء العرب في معظمهم من حكوماتهم التي لا تبالي برفاه المواطنين.
وفي حين يهدر بعض العرب مليارات الدولارات في العالم العربي، تُستثمَر الأموال في الغرب بطريقة منظّمة ومنهجية للقضاء على الفقر ومساعدة الناس على تلبية حاجاتهم.
وتوالت في ذهني مجموعة لا تنتهي من الصور من مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي، وكلها تندرج في الإطار نفسه: أنظمة توتاليتارية تضع مصالح شعوبها في أسفل سلّم الأولويات.
فالدول الغربية لم تقطع أشواطاً كبيرة في مجال التطوّر والتقدّم إلا بعدما لبّت حاجات مواطنيها، ووفّرت لهم بيئة آمنة اجتماعياً من شأنها تفعيل الإبداع والإنتاجية.
أما الدول التي أجهضت أحلام شعوبها، وعطّلت قدرتهم على التفكير، وقضت على إبداعهم، وخنقت أفكارهم، وسرقت حرّياتهم، وغذّت الفساد، وعمّقت الاستياء، فتقع في أسفل قائمة الدول في العالم.
متى ستصحو دولنا العربية والإسلامية وتتنبّه للواقع وتتصالح مع شعوبها؟
لم يفت الأوان بعد.
وما يزيد في الطين بلة أن القطاع الخاص العربي لا يحاول ردم هذه الهوة أو سدّ الثغرات والتعويض عن النواقص والاختلالات التي يعاني منها القطاع الحكومي، أو على الأقل محاولة معالجتها وتحسينها.
وفي هذا الإطار، لا أعفي حتى بعض المسؤولين في السلطة الفلسطينية من المسؤولية في هذه السرقة. فالانتماء يقتضي الالتزام والتضحية والشراكة والإحسان. وليس هروباً من المسؤولية بأيّ شكل من الأشكال.