سعادة الدكتورة هيام صقر المحترمة
أود في البداية أن أكرر شكري الجزيل لجامعتكم العريقة على تشريفي بدرجة الدكتوراة الفخرية التي منحتنى إياها. كما لا يفوتني أن أنوه بالإهتمام الكبير الذي لقيته منك ومن مختلف من أتيح لي شرف الإلتقاء بهم خلال تلك المناسبة التي أثلجت صدري.
وفي الوقت نفسه، أود أن أبدي بعض الملاحظات على بعض جوانب الكلمة التي تفضلت بإلقائها في تلك المناسبة، والتي تزامنت مع تخرج دفعة جديدة من طلبتكم، وكلي أمل أن يتسع صدرك الرحب لملاحظاتي، خصوصاً وأنت صاحبة الصيت الواسع في الإلتزام بالحقيقة العلمية وحدها منهجاً لا محيد عنه.
فلقد لاحظت، يا سيدتي الكريمة، أنك عمدت في كلمتك إلى التركيز المطلق على دور الفينيقيين في إثراء الحضارة البشرية، وهو دور نفتخر به جميعاً، لكني كنت أود لو تطرقت لذكر بعض الحقائق المرتبطة في الموضوع. ومن بينها، على سبيل المثال أن الفينيقيين يعودون في أصولهم للكنعانيين، كما إتفق على ذلك غالبية الباحثين والمؤرخين. والكنعانيون ينحدرون من العرب الأموريين الذين كانوا يقطنون شمالي شبه الجزيرة العربية قبل هجرتهم لشمالي بلاد الشام، ثم إنحدروا منها جنوباً حتى تخوم سيناء.
وعلى الرغم من وجود عشرات المراجع الأجنبية والعربية التي تؤيد ما ذكرناه، لكني أفضل الإستشهاد بالمؤرخ – الرحالة اللبناني الشهير #أمين_الريحاني، حيث يقول في كتابه ملوك العرب: "قال بعض المؤرخين إن الخليج العجم؟ هو مهد الحضارة بل مهد الجنس البشري وإن سكانه الأقدمين أي سكان الجزر فيه، هم أول من رفعوا شراعاً في البحار وإقتحموا أخطار الأسفار فمارسوا الملاحة وأتقنوا علومها وكانوا الصلة العامة بين الشرق والغرب. وقال آخرون إن الفينيقيين هم من هذه الديار العربية، فقد جاء في بعض كتابات المصرين القديمة ذكر البنط Pount وهو اسم الفينيقيين قبل أن يحلوا في الشام ... والظاهر أنهم من أصل عربي فقد نقلت التقاليد القديمة أنهم ظعنوا من الديار المجاورة لخليج فارس إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط".
ثم، ذكرت في كلمتك أيضاً أن الفينيقيين هم من أهدوا العالم الأبجدية المكتوبة. وأقر معك بأن هذا القول بقي حقيقة لا يرقى إليها الشك حتى ثلاثينيات القرن المنصرم، عندما إكتشف علماء الآثار الفرنسيون مدينة أوغاريت القريبة من حلب في شمالي سورية، حيث عثروا على رقم تحمل كتابة مسمارية تعود لمرحلة تقع بين أوائل ومنتصف الألف الثانية قبل الميلاد، أي أنها أقدم من الفينيقية بمئات عدة من السنوات. وبعد ذلك بأقل من نصف قرن، إكتشف علماء الآثار موقع إيبلا السوري قرب أوغاريت، وعثروا هناك على كتابة تعود حسب أحدث التقديرات لأوائل الألف الثالثة قبل الميلاد. كما إكتشف في مصر مؤخراً موقع أثري يعود للفترة عينها، وعثر فيه أيضاً على رقم تحمل كتابة مسمارية يعتقد أنها أم الهيروغليفية.
وفي هذا الصدد أود الإشارة إلى ما أوردته صحيفة الحياة اللبنانية الغراء بتاريخ 31/10/2004 على النحو التالي: إستضاف متحف الفنون الجميلة في مدينة ليون الفرنسية الأسبوع الماضي معرضاً عن تاريخ مملكة أوغاريت في سورية وتراثها عنوانه: aux origins de l’alphabet Ougarit حيث وجدت نصوص ولوحات خزفية تحمل خطوطاً هي أصل الأبجدية. ونقلت الصحيفة عن عالم الآثار الفرنسي وعضو البعثة الأثرية #فيليب_بوردوروبي "أن المعرض مهمّ كونه الأول الذي يكرس لأوغاريت". وأشار إلى أن النصوص التي وجدت في أوغاريت تمثل ولادة الأبجدية، وأن العالم بأسره إهتم بتراث هذه المملكة. كما نقلت عن المسؤولة عن متحف ليون جنفييف غاليانو أن أوغاريت مملكة قديمة وعريقة بسبب ترابطها مع العراق ومصر وقبرص وأن النصوص التي عثر عليها شكلت أصل الأبجدية.
ولقد تفضلت بذكر عدد من أساطين العلوم والآداب الذين قدمهم الفينيقيون للعالم، وهو موضع فخرنا مثلما هو موضع فخركم. لكنني، ومرة أخرى كنت أود لو كانت النظرة منطلقة من نفس الإنسانية العميقة التي عبر عنها #أمين_الريحاني بقوله: "ولا فرق عندي في كل حال إذا كان العرب هم الأصل أو الفرع، فإذا كانوا الأصل فمرحباً بالفينيقين أبنائهم، وإذا كانوا الفرع فمرحباً بالمنحدرين من الفينيقين".
راجياً لك أن تنعمي على الدوام بالصحة والسعادة، وأن تواصل الجامعة الموقرة تقدمها تحت قيادتك الحكيمة.