حفلت الجلسة الأخيرة لمحاكمة صدام حسين وأعوانه، بمعان شتى بالغة الخطورة، وبمفارقات إنسانية عديدة جعلت كل من شاهد هذه المسرحية المؤلمة والملتبسة، يستحضر في ذهنه محاكم التفتيش ، ومحكمة المهداوي الشهيرة.
لقد تابع الملايين عبر المرئيات العربية والأجنبية، المحاكمة الهزلية، أو المهزلة المحكمة ، وشاهد الجميع، كيف كان الحقد يتلبس رجلاً سمى قاضياً، على الرغم من أن السمة الطاغية على شخصية هذا الأخير توحي بأنه قد يكون أحد المتسللين من عهود الغستابو أو من الحقبة الستالينية، لأن الكيدية الذاتية، والحقد المغرض كان ينساب من كلماته ونبرة صوته، ونظراته الشذراء التي تنم عن نيات مبيتة، وأحكام جاهزة تنتظر مرور الوقت لتأخذ طريقها إلى النفاذ والإبرام.
إنني لا أدافع عن صدام حسين وأعوانه، وإنما ألتف إلى ظاهرة تستهدف محاكمة مرحلة من عمر العراق وتاريخه قد يكون صدام حسين أحدى طفراتها المسيئة، وأقصد بها المرحلة العربية والقومية. لنكن جادين، هل يعتقد أحداً ذو بصر وبصيرة في العالم أن صدام حسين هو الآن بهذه الأهمية في أيامنا هذه حتى يحاكم بهذا الشكل المهين، أم إنهم يحاولون النيل من هوية العراق عبر هذه المحاكمة المذلة وإنتماء العراق وتشويه تاريخه الأصيل.
إنهم من خلال تلك المحاكمة يريدون جعل العراق عبرة لمن تسوله نفسه من الزعماء مجرد التفكير في مواجهة الأجندة الغربية الأمريكية وبذلك يرسلون رسالة لمن يهمه الأمر بأن هذا مصير أي دولة مهما عظم شأنها إن فكرت مجرد لوهلة للوقوف ضد المصالح الأمريكية.
لماذا العراق اليوم يتقدم على كل الأولويات الغربية في إعادة رسم خريطة الوضع العربي بإختصار للأسباب التالية:
1)لأن العراق يقع في قلب الشريان الرئيسي للتدفق النفطي في العالم
2)لأن العراق يمتلك مقدرات بشرية وإقتصادية هائلة
3)لأن العراق أوشك، أو كاد يوشك على إمتلاك مفاعلاً نووياً، الأمر الذي يشكل نوعاً من التوازن الستراتيجي مع إسرائيل
4)لأن الجيش العراقي شارك في كل المعارك دفاعاً عن قضية العرب المركزية فلسطين
5) لأن الشعب العراقي ينتمي بالفطرة وبالتربية والممارسة إلى العروبة المتنورة، وأكد إلتزامه القومي على مدى حقبات مديدة، الأمر الذي شكل ويشكل عقبات ليست بالقليلة أمام محاولات إلغاء هذا الدور القومي.
6) بروز العراق كقوة اقليمية فاعلة يحسب لها ألف حساب بعد خروجه من حربه مع إيران التي إستمرت ثمان سنوات والخبرات العسكرية الهائلة التي إكتسبها الجيش العراقي خلال فترة الحرب.
إذن وعن سابق تصور وتصميم يتم اليوم محاكمة العراق عن دوره العربي السابق والمفترض مستقبلاً، عبر محاكمة متهمين كأمثال صدام حسين وأعوانه، أكرر، لا أدافع عن صدام، بل أدافع عن العراق، ولا أدين القضاء إنما أدين التصرفات التعسفية لهذا القاضي المزعوم وأساليبه المستهجنة، التي تجاوزت في طغيانها كل الممارسات، الغير سوية.
إن ما نسمعه عن الديمقراطية الأميركية يتنافى كلياً مع الأداء الممسوخ والمنسوخ لهذا القاضي الذي لا يعرف عن الديمقراطية شيئاً على ما يبدو واضحاً وجلياً. إن هذه المهزلة المحكمة، هي إحدى التعبيرات الفاضحة، عما يدبر للعراق الحبيب، في السر والعلانية، هذه المحكمة هي إحدى المؤشرات البدائية للهدف الجوهري الذي يتمحور حول غاية إقتلاع العراق من جذوره العربية والقومية، وترسيم تاريخه وربما حدوده على إيقاع خطير قد لا تتوقف مفاعليه في إطار ما هو قائم من تعويم لتيارات وقوى أقل ما يقال فيها أنها تحاول دفع العراق نحو منزلقات تفتيتية خطيرة.
فالذي يحصل اليوم، هو عملية تزوير تاريخية، فهل يجوز أن تحكم الشعوب بالإنابة، أو بالإتباع، وهل يجوز السكوت العربي عن هذا الواقع الآيل إلى التمدد والإنتشار والتعميم، فما لو قيض له النجاح في أرض دجلة والفرات. إن هذه القضية، تعتبر بلا شك من أخطر القضايا التي ستواجهها المنطقة العربية برمتها، إذا لم يتم التصدي الفوري لها في العراق، فالرحابة العربية، والتوجه القومي الصحيح قائم على إحتضان كل أطياف ومكونات وأقليات وأكثريات الأمة.
إلا أن تغيير هذه المعادلة يشكل تصديعاً، وخللاً خطيراً، قد يصعب تداركه مستقبلاً عند حدوث أي إختلال في المعادلة العربية وخاصة في دول المشرق الغربي والجزيرة العربية. العراق اليوم هو المفصل، وهو حد السيف، وأعتقد جازماً أن هذا البلد الحبيب والجريح يستحق منا وقفة جدية وصارمة إزاء محاولات تغريبه، ومصادرة أصالته العربيةـ، وتاريخه ودوره المميز، ويجب على الأمة العربية التصدي وبشكل فوري لئلا يتفشى هذا السرطان في الجسد العراقي الذي من خلاله يتم إستئصال وتفتيت هذا البلد العربي العظيم على خلفيات قومية ودينية لأن هذا يشكل خطر داهم على أمتنا العربية وخصوصا الدول التي يوجد فيها تمايز قومي وعرقي وديني.
وحتى لا تظل محاكمة صدام وأعوانه مدخلاً وممراً لمحاكمة التاريخ العراقي، أرى أنه لابد من التالي:
1)وقف المحاكمات القائمة حالياً وبشكل فوري.
2)مبادرة جامعة الدول العربية إلى إنشاء محكمة عربية من القضاة العرب، للنظر في ممارسات النظام العراقي المخلوع.
3)تحديد عاصمة إحدى الدول العربية كمكان إقامة لهذه المحكمة العتيدة.
4)وأن يكون لهذه المحكمة الحق في محاكمة كل الذين أساؤوا إلى الشعب العراقي خلال الإحتلال الأميركي فضلاً عن محاكمة أركان النظام السابق.
5) الحكم العادل على كل من تثبت إدانته ماضياً وحاضراً وإيداعهم السجون وعدم قبولهم في أي مجتمع عربي وغربي وتحت أي مسمى كلاجئين سياسيين أو غيره ومعاملتهم كمجرمين فقط
6)من تثبت براءته يعود على العراق معززاً مكرماً، مع كافة الحقوق المدنية والسياسية.
7)أن يكون لهذه المحكمة أيضاً سلطة الإدعاء والإتهام على أي طرف أو قوة عراقية تدين بالولاء أو بالتبعية، أو بالإلتحاق، أو بالممارسة لأي جهة خارج حدود الوطن الأم ذو التاريخ الأصيل.
8)لابد من مبادرة خليجية فورية تجاه العراق لوقف التداعيات الإنقسامية أو الإلتحاقية التي تسعى إليها بعض المكونات السياسية لتغيير تاريخ العراق ليس فقط من أجل العراق بل من أجلنا نحن في مجلس التعاون الخليجي.
نهاية، أود أن أؤكد مرة أخرى على خطورة هذه القضية، وعلى ضرورة معالجتها قبل أن يبلغ السيف الزُبى.