في كل مرة تندلع فيها أزمة في الشرق الأوسط تثيرها الولايات المتحدة أو إسرائيل، يتعالى صوت الشارع العربي من المغرب إلى العراق مطالباً دول الخليج المنتجة للنفط بأن تلعب ورقة النفط. ومن الممكن تفهم طبيعة تلك المطالبة العاطفية الداعية للوقوف في وجه السياسات الإسرائيلية القمعية ضد الشعب الفلسطيني وضد جاراتها، وفي وجه تواصل الإحتلال الأمريكي للعراق. ولكن لو نظرنا للأمر بواقعية وبمنظور القرن الحادي والعشرين، فسوف يبدو بوضوح أن إستخدام النفط كسلاح لن يكون غير قابل للتطبيق فقط، بل سيضر بالمصالح العربية.
وكان وزير الخارجية السعودي قد أجاب على سؤال حول ما إذا كان النفط يجب أن يستخدم كسلاح في الحرب الأخيرة بين لبنان وإسرائيل، فقال: "لا ينبغي خلط الموضوعين ببعضهما لأن النفط يعتبر من المقومات التي تستخدمها الدول للوفاء بإلتزاماتها تجاه مواطنيها. ولو تجاهلنا هذه الحقيقة وبدأنا نطلب إستخدام مقومات حياـتنا في مغامرات طائشة، فإن أول من سيتضرر هم مواطنونا. ولا يمكن لأي حكومة تتصف بالحكمة أن تقبل بهذا".
كما أن عادل الجبير، مستشار السياسة الخارجية السعودي قد أدلى عام 2002 بتصريح صحفي قال فيه "النفط ليس سلاحاً. النفط ليس دبابة." وفي السنة ذاتها أكد وزير الدفاع الكويتي نفس المقولة، ووصف نفط بلاده بأنه "ثروة جوهرية للشعب".ولربما لا تلقى هذه الآراء قبولاً حسناً لدى العرب الذين تتملكهم مرارة مشروعة تجاه أمريكا وإسرائيل ويشعرون بأنه من العدل إستخدام أي أداة لرد العدوان. ولكن عندما تؤخذ جميع العوامل ذات الصلة بعين الاعتبار، فإن تلك الأقوال تغدو صحيحة ومعقولة.
أولاً، إن إستخدام ورقة النفط يمثل خطأ بالغاً في ميدان العلاقات العامة. فالناس الذين يعانون من إرتفاع أسعار النفط في شتى أرجاء العالم سيضطرون لدفع مبالغ أكبر لتذاكر سفرهم ولتكاليف التدفئة، وهذا على الأرجح سيبعدهم عن التعاطف مع القضايا العربية.
ثانياً، لو إستخدمت الدول العربية المنتجة للنفط تلك السلعة الثمينة وسيلة للمساومة، فإن ذلك سوف يرتد على الغالب ليلحق الأذى، ليس بالدول المنتجة وحدها، بل أيضاً بدول العالم الثالث النامية، بما فيها الدول العربية. ومن المهم التأكيد على أنه ليس فقط شعوب الدول المنتجة للنفط هم من يستفيدون من موارده. فخلال العقود الماضية إستثمرت دول الخليج العربية المليارات لمساعدة جيرانها الأقل حظاً، فضلاً عن تشييد المدارس والمستشفيات والمساجد والمجمعات السكنية ومكونات البنية التحتية المتنوعة. كما أن العالم تغير بصورة جذرية منذ حظر النفط الذي طبق عام 1973 لردع الولايات المتحدة وحلفائها نتيجة إمدادها إسرائيل بالأسلحة خلال الحرب التي خاضتها ضد سوريا ومصر. فالولايات المتحدة اليوم تستورد أقل من 20% من نفطها من الدول العربية المنتجة للنفط.
لقد أحدث حظر النفط عام 1973 صدمة عالمية كبرى. وخلال سنة واحدة تضاعف سعر النفط أربع مرات، وواجهت الولايات المتحدة أول عجز في إمداداتها النفطية منذ الحرب العالمية الثانية. وفي الوقت نفسه إشتدت وتيرة التضخم فإهتز الإقتصاد الأمريكي بحدة وتراجع الدولار الأمريكي، مما أدى لكساد عالمي. ولو تكرر السناريو نفسه اليوم، حيث تتركز إستثمارات الدول العربية الثرية في الغرب، وحيث تستوفي دول أوبك عوائدها بالدولار، لأصبحت الإقتصادات العربية في مهب الريح. وذاك لن يؤثر فقط على دول الخليج المنتجة للنفط، بل على الآلاف الكثيرين من العرب الذين يعملون ويعيشون في تلك الدول.
ومثلما حدث عام 1973، سيكون لحدث من هذا النوع إنعكاسات إقتصادية عالمية على المدى البعيد. فنتيجة للحظر النفطي في السبعينيات إضطر الغرب للبحث عن النفط في أماكن لم تستكشف بعد. ونتيجة لإرتفاع أسعار النفط، فإن حقول النفط القصية أو التي كان من الصعب الوصول إليها، مثل حقول بحر الشمال، أصبحت ميسورة وأقرب منالاً. وفي الوقت نفسه تم ضخ الإستثمارات في الطاقة النووية وفي البحث عن طاقات بديلة وتقنيات جديدة مثل تحويل الغازات لسوائل. وخلال العام الماضي وحده إستثمرت الدول المستهلكة 20 بليون دولار على تطوير تلك التقنيات الجديدة. كما شهدت الأعوام المنصرمة إستئنافاً للإهتمام في الفحم.
وكان من النتائج الفرعية للحظر إنتشار السيارات اليابانية صغيرة الحجم على حساب سيارات الليموزين الأمريكية الكبيرة التي تلتهم الوقود إلتهاماً. وظهرت الدعوات للأمريكيين للحفاظ على النفط بتقليل إستخدامه. ولعله من حسن حظ هذه المنطقة أن الطلب على النفط مازال يتصاعد على الرغم من تلك الدعوات. وفضلاً عن ذلك، فإن الغرب بعد 1973 تعلم الدرس جيداً. ولذا لم يعد يعتمد على فرضية توفر إمدادات لا تنقطع من النفط، فبدأ بتخزين الوقود لمواجهة حالات الطوارئ.
فإدارة بوش التي وصلت إلى السلطة حاملة خططاًعدوانية تجاه الشرق الأوسط، بدأت بتخزين النفط منذ الأيام الأولي لتوليها مقاليد الأمور. وفيما تحتـفظ اليابان وألمانيا بمقادير إحتياطية كبيرة، فإن الصين والهند تسلكان نفس المسار.
وعلى سبيل المثال، يمكن للدول الـ26 الأعضاء في وكالة الطاقة الدولية الإعتماد على إحتياطي هائل لسحب 12 مليون برميل نفط يومياً لمدة أربعة شهور، ثم تخفيض الكمية إلى تسعة ملايين برميل يومياً بعد ذلك. وهذا يعني أن نجاح أي حظر يقتضي أن يكون مبنياً على أساس المدى الطويل وعندها سيلحق من الضرر بالدول المنتجة قدر ما يلحقه بالدول المستهلكة، إن لم يكن أكثر.
وهنا ينبغي التأكيد على أن دول العالم الثالث المكافحة، والتي لا تمتلك إحتياطاً من النفط، ستتعرض لضربة قاسية نتيجة لعدم توفر النفط والإرتفاع الكبير في أسعاره، مما سيلقي بها في مهاوي إقتصادية لعقود طويلة مقبلة. ويصح ذلك خصوصاً عند إرتفاع الطلب على النفط في مناخ سياسي غير مستقر يدفع إلى الأعلى بالأسعار المرتفعة أصلاً نتيجة عوامل السوق. أما الحظر الإنتقائي فلن يكتب له النجاح أيضاً لأن النفط المباع لدول تعتبر "صديقة" سيعاد شحنه إلى نفس الدول التي فرض الحظر بهدف التأثير عليها. وكان وزير النفط السعودي الأسبق الشيخ أحمد زكي يماني ممن أدركوا تلك الحقيقة، حيث قال"... إن العالم في الواقع ليس أكثر من سوق واحد". وإن كان ذلك صحيحاً في الماضي فإنه أكثر صحة اليوم.
ينبغي علينا في الوقت نفسه أن نأخذ في إعتبارنا التغير الذي طرأ منذ 1973 على "تدفق التجارة". ففي تلك الحقبة كان جزء كبير من نفط المنطقة يباع لدول الغرب المتطورة. أما حالياً، فتباع نسبة مرتفعة منه لجنوب شرق آسيا والشرق الأقصى، أي لدول ليس لها علاقة تذكر بالقضايا السياسية للشرق الأوسط. ولو عدنا للماضي، فسوف نجد أن الحظر النفطي عام 1973 كان له نتائج سلبية تفوق بكثير نتائجه الإيجابية، فالولايات المتحدة وحلفائها الغربيين أصبحت على وعي مستمر بالتهديدات المماثلة التي قد تصدر عن المنطقة، فقامت بإعادة صياغة سياساتها الخارجية لتفادي ذلك.
ومن الأمور ذات الصلة المهمة أنه، وبعد أن بدأ العراق بيع نفطه باليورو بدلاً من الدولار، تم إحتلاله بذرائع زائفة واليوم، تطلق تهديدات مماثلة ضد إيران، التي خططت منذ زمن لإفتتاح بورصة نفطية تستغني عن البترودولار لصالح عملات أخرى. في ذلك الإطار، قال مايكل رينر، كبير المحللين لدى معهد #وورلد_واتش "إذا إحتفظت الولايات المتحدة بنفوذ سياسي قوي في الشرق الأوسط، فقد تكون أكثر قدرة على إقناع الحكومات في المنطقة بعدم التحول إلى اليورو في تسعير النفط والإلتزام بالدولار."
كما أعرب الدكتور تيد كاربنتر، نائب رئيس الدراسات الخاصة بالدفاع والسياسة الخارجية في معهد كاتو، عن قناعته بأن صانعي السياسة الأمريكيين لا يفهمون آلية عمل أسواق النفط. ويضيف "سيقوم منتجو النفط بدفع نفطهم إلى السوق بغض النظر عمن يتولى مقاليد الأمور في عواصمهم. وإذا فعلوا ذلك، فإن ذلك هو ما يحدد السعر النهائي للنفط، ولا يهم ساعتها إن كان النظام صديقاً أو عدواً للولايات المتحدة".
كاربنتر على حق، ما في ذلك شك. لكن المزيد والمزيد من المحللين يصلون لقناعة مؤيديها أن السبب الحقيقي لإهتمام أمريكا بالمنطقة هو السيطرة على منابع النفط أكثر مما هو ضمان الحصول على النفط. ومما يبعث على السخرية أنه في الوقت الذي رفضت فيه أوبك إستخدام ورقة النفط، تريد الولايات المتحدة إستخدام نفط المنطقة كسلاح لمنع التطور الإقتصادي والعسكري لدول تنافسها على النفوذ، والمتعطشة للنفط، مثل الصين والهند. أما إمكانية نجاحها، فأمر آخر.
يذكر أن رئيس وزراء إسرائيل السابق أرييل شارون سبق أن قال جملته الشهيرة "إذا كان العرب يمتلكون النفط، فإن أعواد الثقاب لدينا". وتلك هي المشكلة الحقيقية التي تواجهها الدول العربية المنتجة للنفط وستبقى تواجهها طالما إستمر الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وطالما بقي الفلسطينيون دون دولة. وطالما بقي ذاك النزاع والمشاكل المرتبطة به من دون حلن فسيبقى الناس الغاضبين بسبب الظلم الذي يلحق بالعرب يطالبون بإستغلال النفط بدلاً من السيف. لكنه من واجب القادة العرب أن يمتنعوا عن تنفيذ ما يريده خلفاء شارون الإيديولوجيين. فالثروة الكبيرة تحمل في طياتها مسؤوليات كبيرة، أهمها رفاه الشعوب التي حباها الله بتلك الثروة.