تمر المنطقة العربية، بشكل عام، ومنطقة الخليج بشكل خاص، بمرحلة دقيقة تشكل بمجملها بدايات لزمن ضبابي قد نعرف بداياته، ولكننا بالتأكيد لا نعرف نهاياته التي تنذر بنتائج قد تكون عقباها ذات تأثير بالغ على المنطقة بأسرها، إقتصادياً، سياسياً وإجتماعياً.
فالذي يحدث يشكل بدايات لفتنة متنقلة، أو محاولات لإحداث إنقسامات دينية ومجتمعية، وعرقية داخل المجتمع الواحد والوطن الواحد والدين الواحد، والأغرب لا بل الأدهى والأخطر أن هذه المحاولات يتم تعميمها وتسويقها، تحت الستار الديني مرة، وبذرائع مذهبية مرة أخرى، إلى ما هنالك من إشكاليات.
ولعل عالمنا الإسلامي، والعربي تحديداً يمر بأزمة غير مسبوقة، ويعيش حالة من التصدع والإنقسام الحاد، ويشهد بدايات لثقافة مجتمعية جديدة وغريبة، ونرى تردادات لمصطلحات وممارسات دينية تستظل الدين الحنيف ولكن دون أي إرتكاز إلى قواعده النبيلة، أو الى أحكامه وإيحاءاته.
فأشكال المذهبية البغيضة تغزونا من وراء الحدود مستحضرة معها كل عوامل التفتيت، والشعوبية الممجوجة تسعى إلى إقتحام وحدتنا، وديننا ومعتقداتنا عبر أشكال شتى مرفوضة ومردودة، وساقطة بإذن الله تعالى.
فها هي عدة مواقع في قلب الوطن العربي تشرف على التآكل والسقوط بفعل الإستهداف المذهبي الذي يتلطئ بالشعارات البراقة والكبرى والتي يتم إجترارها للإستهلاك الرخيص والمكشوف.
مواقع شهدت زحف الفتنة، ولا تزال مواقع أخرى تنتظر دورها. الأراضي العراقية التي تشهد إنبعاثاً مقيتاً لحرب ضروس ضد وجود العرب الأصيلين، الذين بحكم حرصنا على وحدة المسلمين وبإضطرارنا لتسمية الأسماء بمسمياتها الصحيحة، نقول أنها حرب ضد العرب، ونربأ بأنفسنا أن نقول أو أن نصدق أن هؤلاء مستهدفين من الشيعة العرب، بل سنظل نؤمن ونرى ونصدق بأنها فتنة تصدر من خارج حدود العراق وكأنها إستحضار لتيارات تاريخية وإستعادة لموروثات وتراكمات بعيدة، كان فيها الإسلام العربي والأمة العربية بحالة إستهداف مستشر.
وأراني مضطر للقول، وللأسف المقام والمقال، بأنه يتم ذبح العراقيين العرب في العراق على أيدي دعاة الفتنة أنفسهم، حتى أنهم حولو موضوع الإحتلال الأميركي إلى قضية ثانوية. وأصبح الهدف والمركز والقضية الأساسية هم العراقيين العرب وذلك لنشر "الثقافة المستوردة من وراء الحدود."
وبفعل المداخلات نفسها تم إسقاط الحلم الفلسطيني، بإستعادة الأرض والمقدسات، ليقيم الحال على إقتتال أهلي بين الفلسطينين أنفسهم، ولتتحول "#الدولة" و"#السلطة" وما بينهما الى تراصات وتكتلات وإنقسامات بين شعبنا الفلسطيني تنذر ليس فقط بسقوط الإنجازات بل بمن أنجزوها. كل هذا يتم بتدخل واع، وبتخطيط مدروس من الجهة نفسها القابعة على ثغور أمة العرب متوسلة الواقع المادي لأهلنا في فلسطين.
أخيراً ليس آخراً تستغل عدة جهات الواقع التعددي التنوعي في لبنان لتدير منه حروبها الإقليمية والدولية، ويتم إستغلال الحاجات المادية لأبناء هذا البلد الصغير لأغراض سياسية بعيدة عن الدين الإسلامي، لا بل عن أي دين سماوي، إذ يتم إستيلاد فتنة بين المسلمين هناك تستظل وتستدرك الشعارات "الكبرى" غيرها، وهي بواقعها لا تتعدى ذبح التيار القومي العربي وتأثيراته التاريخية على الساحل المتوسطي.
لن أتوسع في الحديث عن هذه القضية السوداوية والخطيرة، ولن أتوسع في كشف زوايا أخرى لهذا التسرب الذي يحاول النيل من وطننا العربي تحت عناوين شتى، ولكن سأكتفي بالإشارة الى أن هذا الزحف نحو أراضينا ومقدراتنا أنجز ولغاية اليوم ثلاثة ملايين مهجر عربي عراقي الى سوريا ومواقع أخرى، وأضيف إليه النزيف اللبناني والفلسطيني، وما يعتمل تحت الرماد في بعض أنحاء دول مجلس التعاون الخليجي.
المهم، أنني سأخلص إلى القول، أن ثقافتنا ما كانت يوماً تفتتية ولا عرقية، فكلنا عرب، نعبد الله سبحانه وتعالى، ونتلو في صلواتنا بأن محمد "صلى الله عليه وسلم" هو رسول الله ونؤمن أيضاً بكل الرسل والأنبياء، وبالديانات السماوية وبكتبها.
إذن الإستهداف واضح والوسيلة واضحة إذ أن العرب ككيان تاريخي وكقومية ذات تراث عريق هي المستهدفة عبر المواقع التالية:
الوطن العربي والخليج العربي تحديداً بمقدراته الإقتصادية ومقوماته ونجاحاته ووحدة بنيه.
القومية العربية بما تشكله من تطلعات مستقبلية ومن ماضٍ تليد.
فإستغلال بعض أجزاء أمتنا العربية ومواقعها الإستراتيجية وجعلها بؤرة للمواجهة والصدام وللدفاع عن بعض المناورات الإقليمية يشكل أولويات لبعض القوى الإقليمية.
كل هذا واضح ولكننا إزاء لهذا التحدي المصيري أكدنا تاريخياً ونؤكد مجدداً كعرب تجمعهم القومية الواحدة على إختلاف مشاربهم بأننا أمة قد تجاوزت مرحلة الفطام، وإن قوميتنا العربية ليست للمساومة ولا للمقايضة، وكما تصدينا ماضياً، سنتصدى اليوم لهذه الهجمة التفتتية، التقسيمية على منطقتنا، ونؤكد على ضرورة إنقاذ أخواننا العرب من هذا المرض الخبيث الذي يذر سمومه بين ظهرانينا.
يجب علينا أن لا نوفر جهداً في مواجهة هذا الوباء المذهبي القادم نحونا، وأؤكد أنه مع وقف تدفق هذا المال ستكون أمتنا بألف خير من الله.
لأن ما حدث ويحدث هو بسبب إتاحة القيادات العربية الفرصة لتسلل هذه الأوبئة الى بيئتنا العربية، ولو قامت بعض القيادات العربية بواجبها تجاه الدول العربية الأخرى لما حدث ما يحدث.
إن مواجهة هذه الهجمة يجب أن يتم بشكل هادئ ومدروس ومدرك لكل الأبعاد، لذا فإن بدايات الرد تكون بالخطوات التالية:
أولاً: مبادرة أمة العرب إلى التأكيد على أن عروبـتنا هي خيار نهائي رحب ومنفتح.
ثانياً: التأكيد على أننا كعرب نريد أن نتجاوز محن الماضي، ولا نريد أن نتطلع الى التاريخ البعيد أو القريب إلا من خلال منظار الحضارة والعصرنة.
ثالثاً: إلتزام العرب كافة بحماية الدول العربية جمعاء، وحماية قوميتنا ومعتقداتنا كلها، بتعددها وغناها وتنوعها الديني.
رابعاً: إقامة حلف متكامل ومتكافئ ومتوازن بالمسؤولية والموجبات بين دول مجلس التعاون الخليجي، ومصر والأردن على أن تقع على عاتق هذا الحلف المسؤولية التاريخية بحماية عروبة كل الأقطار العربية من محاولات الإستباحة والإنتهاكات القومية. إن من شأن هذا الحلف، أن يكون رادعاً لكل من تسول له نفسه التلاعب بتاريخنا القومي وبتمسكنا النهائي بالعروبة ومندرجاتها.
خامساً: التشديد على أننا كمسلمين ومسيحيين نفتخر بعروبتنا ونسترشد بهديها، ونؤكد على أن عزتنا هي في إنتماءنا لهذه العروبة، وإلا فإن أحداً في العالم لن يحترمنا ولن يقدرنا ولن يأخذنا في إحتساباته.
فالتقدير والإحترام هو للقوميات الفاعلة، وليس للإنتماءات الدينية المذهبية الضيقة والصغيرة. لذا فإن العمل الفوري يبدو ملحاً أكثر من أي وقت مضى، ولا يساورني الشك حول إدراك حكامنا وقياداتنا لهذا الواقع المتردي، إلا أنني رأيت أن أرفع الصوت لأؤكد أن الساعة قد أزفت للحراك الجدي والفاعل.