طويلاً ما كانت لدي قناعة راسخة بأن نمط الحكم الذي تطور على مر قرون من الزمن في واحد من أجزاء عالمنا لن يكون مناسباً بالضرورة لتصديره لنا. والدول العربية ليست كتلة ضخمة واحدة. صحيح أن دولنا ترتبط ببعضها عبر اللغة والثقافة والدين، غير أن كل بلد يتفرد بتاريخه وظروفه الحالية وطموحاته. ولا يمكن لشكل واحد من الحكم أن يكون وصفة عامة تناسب الجميع.
نموذج الحكم في بلدي، الإمارات العربية المتحدة، هو شكل تختص به وحدها ومع ذلك فقد أثمر نتائج مدهشة على صعيد التنمية االإقتصادية ونمط الحياة لدرجة جعلت منها حالة متميزة تخضع للدراسة من قبل الباحثين والأكاديميين للتعرف على أسرار نجاحها. غير أن هناك عنصراً مشتركاً بين كل الحكومات الجيدة وهو أنها حكومات قوية.
وأعني بالحكومات القوية تلك التي لا تخشى إتخاذ القرارات حين تكون في مصلحة الجميع وتعمل بثقة في النفس لتطبيق هذه القرارات. وبالطبع لا أقصد أنه يتوجب عليها تجاوز الخط الذي يفصل الحكومة عن أن تكون سلطوية أو قمعية.
وفي المقابل، مثلما يتعين وجود معايير لقوة الحكومة، يجب أن تكون هناك معايير أيضاً خاصة بالمواطن. صحيح أن قوة الشعب شيء يباركه الجميع وليس هناك ما يضير في الإحتجاجات الشعبية من ناحية المبدأ. ولكن حينما تصل التظاهرات حد إصابة البلاد بالشلل مثل منع المسافرين من الوصول إلى المطارات أو حرمان التجار من فتح محلاتهم التجارية والطلاب من متابعة دراستهم، فإن ذلك يعني فتح الباب أمام الفوضى العارمة التي تمثل نقيض الحرية.
وعلى النحو نفسه نجد أن الحق في الإضراب عن العمل هو حق مقدس في معظم الأنظمة الديمقراطية، غير أن الإضرابات المطولة يمكن لها أيضاً أن تترك أثراً بالغ السوء على حريات المواطنين. وعلى سبيل المثال، إضطر رئيس الوزراء البريطاني الأسبق تيد هيث أن يعلن حالة الطوارئ في البلاد خمس مرات نتيجة لسلسلة من الإضرابات المتلاحقة.
في شتاء 1979/1978، الذي سمي بشتاء السخط، تعرضت بريطانيا لحالة من الشلل الكامل. سائقو الشاحنات سدوا الموانئ والطرقات السريعة وسرعان ما لحق بهم سائقو القطارات وسيارات الإسعاف ومشرفو المدارس وموظفو المطارات وحفارو القبور وعمال النظافة. وبلغت الأزمة حداً جعل جثث الموتى تتكوم في المصانع حيث لم يعد هناك من مكان آخر لوضعها فيه. كما إمتلأت ساحة ليشستر وسط العاصمة لندن بتلال القمامة التي تعشش فيها الجرذان.
وحينما تسلمت مارغريت تاتشر، السيدة الحديدية، مقاليد الحكم بدأت بالعمل على تقليص قوة نقابات العمال وإعادة البلاد إلى مسار النمو الاقتصادي. كما أن مواقفها القوية في السياسة الخارجية رفع أيضاً من شأن بريطانيا على الساحة الدولية مما جعلها تحتل مكانة عالمية أكبر من حجمها. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو الآخر يجسد كيف أن زعيماً قوياً بمقدوره تغيير مسار الدول من التراجع إلى التقدم. بوتين الذي كان رئيساً سابقاً لجهاز الإستخبارات الروسي كيه جي بي، عينه سلفه بوريس يلتسين رئيساً للبلاد في 1999 حين أصبح الرئيس بالوكالة لدولة تعاني من تفشي الجريمة والفساد والتضخم ومصاعب مالية كبيرة وركود إقتصادي مستفحل.
ومثلما جردت تاتشر النقابات من قوتها، عمل بوتين على مواجه رأس المال النافذ سياسياً، أو ما يعرف بطبقة الأوليغارخ والعصابات الذين كانا يستنزفان ثروة البلاد ويرهبان أهلها. واليوم يتمتع بوتين بشعبية كبيرة في روسيا نتيجة تعامله الناجح مع المصاعب الإقتصادية وجهوده لإسترداد مكانة روسيا على المسرح العالمي. مصطفى كمال أتاتورك هو أيضاً بطل قوي آخر. فإليه يعود الفضل في إدخال تركيا إلى القرن العشرين بالإعتماد على جرعة قوية من الحب الأبوي القاسي ولا يزال حتى اليوم بطلاً يمجده الأتراك.
غير أن هناك بعض الدول التي يعاني إرساء حكم رشيد فيها من العراقيل الناتجة عن الطائفية السياسية الدينية والعرقية. وفي هذه الحالة، تقفز أيرلندا الشمالية إلى الذهن فوراً كمثال عليه، حيث تجري حالياً محاولات الفرصة الأخيرة للتوصل إلى تشكيل جمعية وطنية تشاركية تجمع بين القوميين #الكاثوليك والإتحاديين البروتستانت. هذه البلاد التي تشكل جزءاً من المملكة المتحدة كانت مبتلاة بالعنف لعقود عديدة من الزمن، بل إنها كانت في بعض المراحل غير قابلة للحكم. لكن بحدوث ذلك الحجم من القتل والدمار بسبب الخلافات الدينية أكثر من أي شيء آخر، لا بد وأن تكون هناك الكثير من الدروس التي ينبغي تعلمها من أيرلندا الشمالية.
في عالم مثالي، ينبغي إختيار القادة بناء على قدراتهم القيادية، من سمات شخصية وإمكانيات وخبرات وغيرها، وليس بناء على إنتماءاتهم الطائفية. وإن لم يعمل الزعيم لما فيه صالح جميع الطوائف في المجتمع وبإعتباره ممثلاً لها كلها وإن لم يبذل كل جهد ممكن لينأى بنفسه عن الإنحياز لجانب على حساب آخر، فإن التصدعات لابد وأن تظهر. قد يبدو هذا الكلام مثالياً، غير أن هناك سوابق عديدة تشهد على إمكانية تحقيقه.
الرئيس الراحل جون كينيدي هو من بين أكثر الرؤساء شعبية في الولايات المتحدة، ومع ذلك فهو ينتمي إلى الطائفة الكاثوليكية التي تمثل أقلية في الولايات المتحدة. بل إن عائلته كانت كاثوليكية متزمتة في ولائها المذهبي. غير أن كينيدي قبل إنتخابه رئيساً خفف مخاوف الناخبين حينما قال لهم قولته المشهورة: "أنا لست مرشحاً كاثوليكياً للرئاسة. أنا مرشح الحزب الديمقراطي للرئاسة والذي تصادف أن يكون كاثوليكياً هذه المرة." أيضا كان كينيدي صاحب مواقف صلبة مثلما تشهد على ذلك سياسته إزاء أزمة الصواريخ الكوبية ودفاعه عن الحقوق المدنية.
وفي الفلبين، وفي الإتجاه المعاكس هذه المرة، إنتخبت البلاد التي تغلب عليها أغلبية كاثوليكية كبيرة فيدل راموس البروتستانتي رئيساً لها، وقد عمل راموس بعد ذلك على مد الجسور مع الجماعات الإنفصالية وأحيى في نفوس أبناء بلده الروح الوطنية.
إن القيادة القوية تصبح ذات دور جوهري لا غنى عنه في أوقات الأزمات. ولعل الكاتب المسرحي الأيرلندي أوسكار وايلد كان أصدق من عبر عن ذلك حينما قال: "إن أسوأ أشكال الطغيان التي عرفها العالم هي طغيان الضعيف على القوي. إنه الطغيان الوحيد الذي يمكن أن يدوم."