لم يعد بمقدورنا نحن أهل الخليج أن نشيح بوجوهنا عن المذبحة الفظيعة والمعاناة اللتين تتواصلان في العراق بلا إنقطاع. لقد تبنينا مطولاً موقفاً يقول إن على الأمريكيين أن يصلحوا بأنفسهم ما كسروه بأيديهم. غير أن المشكلة ليست عدم مقدرتهم على إصلاح ما كسروه فحسب، بل إن مجرد وجودهم بحد ذاته يزيد من حدة المشكلة.
لقد توصلت دراسة أجراها أطباء عراقيون بإشراف كلية #بلومبرغ للصحة العامة في جامعة #جون_هوبكنز_الأمريكية إلى أن أكثر من 655 ألف مدني عراقي قد ماتوا حتى الآن نتيجة الاحتلال. ولا يتوقف الأمر عند تزايد أعداد القتلى فحسب بل إن عمليات القتل أصبحت أكثر رعونة ووحشية. إذ شهد الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر الماضي إحراق ستة عراقيين وهم أحياء وإضرام النار ببيوت ومساجد في عمليات إنتقامية. وقام مسلحون في ذلك الأسبوع بقتل 215 عراقي فيما يقال إن الجنود الأمريكيين قتلوا 11 مدنياً عراقياً في إحدى ضواحي العاصمة بغداد. ولا يمثل هذا العدد من القتلى سوى قمة جبل الجليد فقط من عمليات القتل في ذلك الشهر.
وقد تفاقم الحقد لدرجة أن الناجين من عمليات القتل يخاطرون بالتعرض للقتل وهم داخل المستشفيات كما ذكر أحد الأطباء العاملين في بغداد لوكالة إنتربرس للأنباء. كما تعرض للقتل أكثر من ألفي عراقي ولم يجد حوالي 17 ألفاً آخرين بداً من الهرب إلى دول الجوار. إلى متى نستطيع أن نقف متفرجين على هذا الوضع دون أن نفعل شيئاً؟ والأمر لا يقتصر على الإلتزام الأخلاقي بمساعدة جيراننا في العراق، ذلك أن عدم فعل شيء يعني فتح الأبواب على مصراعيها أمام إنتشار سرطان الطائفية. ولن يعود العراق وحده هو المهدد بالتفكك، بل إن الخطر سيطال الخليج والمنطقة عموماً إذا ما إستمرت الفوضى.
حتى وقت قريب كنت ضد فكرة أن توجد قوات عربية إلى جانب قوات الإحتلال. غير أني أعتقد الآن أن لعبة تبادل اللوم يجب أن تنتهي، أو تؤجل على الأقل، لما فيه مصلحتنا جميعاً، فسيكون أمامنا ما يكفي من الوقت لاحقاً لتبادل الإتهامات. قد يرى البعض الأمر بأنه فاتورة ثقيلة عليه أن يسددها، غير أني أسأل إذا ما كان أحدنا على سفينة تغرق، هل سيكتفي بمواصلة الشكوى من طاقم البحارة أم سيفعل شيئاً لإنقاذ نفسه؟
يجب علينا جميعا أن نجلس معاً ونخرج بحل ما قبل أن يفوت الأوان على إمكانية العثور على أي مخرج. وهذا سيتطلب طبعاً القبول بحلول وسط بل وربما تقديم تـنازلات مؤلمة من كل الأطراف غير أني لا أجد مع ذلك ما يكفي من الألفاظ لأعبر تماما عن شدة الحاجة لسرعة التحرك.
لو كنا نعيش أوضاعاً مثالية، لشكلت الدول 22 الأعضاء في منظمة الجامعة العربية قوة مشتركة تساهم في حفظ الأمن في المناطق العراقية التي تتعرض للمشكلات وتحرس المدارس والمستشفيات وغيرها من المنشآت العامة وتحمي الأقليات المبتلاة وتدرب قوات الشرطة والجيش العراقية.
على هذا الصعيد حاول الأمريكيون فعل شيء غير أنهم لم يحققوا سوى الفشل الذريع، حيث نعرف جميعاً أن قوات الشرطة التابعة لوزارة الداخلية العراقية والجيش العراقي مخترقان من قبل الميليشيات والمسلحين. وسيكون للعرب نصيب أكبر من النجاح في التخلص من التفاحات الفاسدة، على الأقل لأنهم يشتركون مع العراقيين بالثقافة واللغة.
هذه الخطة ستمكن قوات الإحتلال من الإنسحاب لأنه لن تعود هناك ذريعه لبقائها. والأمل هو أن ينظر العراقيون إلى القوات العربية بإعتبارها قوات حفظ سلام صديقة وليست قوات معادية أجنبية جاءت لوضع يدها على موارد العراق الطبيعية. لكن تبقى هناك عقبة واحدة يجب التغلب عليها أولاً، وهي ضمان ألا ينظر أحد إلى أي قوة حفظ سلام عربية تذهب إلى العراق على أنها منحازة طائفياً وإلا قد تساهم في تأزيم حدة الإنقسام المتأزم أصلاً.
كما يجب أن تحظى هذه القوة العسكرية، التي تذهب بتفويض من الجامعة العربية، بدعم قوي من دول مجلس التعاون الخليجي بالسلاح والرجال وخدمات الدعم. كما يجب أن يكون لقوات من السعودية ودول الخليج الأخرى دور قيادي في إيجاد مخرج من هذا الواقع المتدهور. وتبقى هذه الخطة مشروطة بأن تكون قوات حفظ السلام العربية مرحباً بها من قبل كل أطراف الحكومة العراقية وأن يعطى لها التفويض اللازم للقيام بمهمتها المنوطة بها.
وفي المقابل هذه المساعدة العربية التي ستعطي التحالف الفرصة لإخراج نفسه من هذا المستنقع الفيتنامي المتجدد، يتعين على الولايات المتحدة أن تعلن جدولاً زمنياً لإنسحابها الشامل من العراق. والإنسحاب الشامل يعني عدم الإبقاء على أي قواعد أو قوات للتدخل السريع في الجوار. ويجب الإعلان عن هذا الأمر على الملأ قبل أن تدخل أي قوات عربية لحفظ سلام الأراضي العراقية بحيث لا تتعرض للإتهام بأنها أتت للمصادقة على وجود الإحتلال أو بالتواطؤ مع الأمريكيين. وكشرط مسبق أيضاً يتعين على واشنطن أن توافق على الشروع في برنامج تعويضات لعائلات الضحايات يتسن بالمساواة. كما يجب على الحكومة الأمريكية وحليفاتها أن تمول خطة إعمار للبلاد طويلة الأجل تنفذها حكومة عراقية غير متحيزة تثبت إلتزامها تجاه شعبها وتجاه سلامة وحدة الأراضي العراقية وتشرف عليها هيئة دولية مستقلة.
ومن المهم جداً أن يتحرر مشروع إعمار العراق من المحسوبية التجارية ومن نفوذ أي قوة أجنبية. وإلا فإن أموال الإعمار ستصبح سلاحاً لكسب السيطرة السياسية. وسياسة العصا والجزرة هذه كان قد نادى بها وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد في مذكرة بخصوص العراق تسربت إلى وسائل الإعلام ونشرتها صحيفة نيويورك تايمز في 3 ديسمبر.
ويجب أن يكون من الواضح تماماً ودون أي لبس أن القوات العربية يجب ألا تبقى في العراق لأي فترة أطول مما هو مطلوب وبالتالي يجب أن يكون التفويض الممنوح لها محدوداً بمدة زمنية محددة سلفاً لا يمكن تجديدها إلا في حالة الضرورة القصوى. وبإعتبار أن المملكة العربية السعودية ودول الخليج ذات مصلحة كبرى في وقف هذا العنف الطائفي في العراق نتيجة لقربها الجغرافي منه وخطورة تمدد النزاع الطائفي خارجه فيجب أن تكون هي من يأخذ المبادرة في هذا التوجه.
وهذا لا يعني أن على هذه الدول أن تتحمل تكاليف هذ المشروع، بل ينبغي أن تكون التكاليف من مسؤولية أولئك الذين تسبب عدوانهم وتخبطهم المتكرر في تدمير العراق وإطلاق شرارة ما أصبح يسمى اليوم علناً حرباً أهلية. وفي المقابل يجب أن لا تكون قوات حفظ السلام العربية أبداً قوات تأخذ أجورها من الأمريكيين وإلا سيصبحون في نظر الآخرين مرتزقة أو مقاولين أمنيين. ومن أجل تجنب مثل هذا السيناريو وضمان الإستقلالية المطلقة لهذه القوات يتعين توفير تمويل غير مشروط للدول العربية المشاركة عن طريق الأمم المتحدة أو البنك الدولي يكون لاحقاً لخروج قواتها من العراق.
لم يعد هناك من ريب في أن الفرصة الزمنية المتاحة لفعل شيئ أصبحت محدودة. لقد إكتفينا بدور المتفرج طويلاً وأجرينا نقاشات أكثر من مستفيضة ومسهبة وإستنزفنا أقلامنا في التعبير عن الأسف من هذا الوضع على صفحات الجرائد غير أن هذا كله كان أبعد ما يكون عن الكفاية.
القضية قضيتنا نحن. العراق جارنا كما أن العراقيين أخوتنا نحن. يجب علينا أن نفعل شيئاً بأنفسنا لإيجاد مخرج. فنحن جزء من هذا الوضع سواء أعجبنا ذلك أم لا.
وأجد من الضروري أن أختم بتشجيع قادة دول مجلس التعاون والدول العربية الأخرى وبقوة على الشروع في العمل لأن الحاجة ملحة جداً والوقت المتبقي أمامنا لمنع وباء الطائفية المقيت من الإنتشار نحو الدول المجاورة أصبح ضيقاً. لماذا نسمح لمصيرنا أن يبقى في أيد الآخرين فيما نبقى نحن نمارس دور المتفرج والمتحسر؟ بحق الله عليكم، لنفعل شيئاً .. والآن