تفوقت الولايات المتحدة على نفسها خلال السنوات الأخيرة في الأقوال، غير أنها أخفقت حين يأتي الأمر للأفعال لا أتذكر نفسي إلا وانا معجب بالولايات المتحدة على اعتبار أنها امة قوية ودولة عدل تتصرف وفق مبادئ ديمقراطية رفيعة. وقد حباني الله بصداقات حميمة وعلاقات عمل مع العديد من الأمريكين. غير أن الأصدقاء عن حق يصدقون بعضهم بعضاً ويقولون الحقيقة مثلما هي.
والحقيقة الجلية اليوم هي أن السياسة الخارجية الأمريكية سياسة يشوبها العديد من الإخفاقات. وهى سياسة لا تعطي ثمارها الموعودة، بل وفي بعض الأحيان تفاقم الأزمات وتجعلها أكثر سوءاً.
انظروا إلى العراق على سبيل المثال. في 19 مارس، تحل الذكرى السنوية الخامسة للغزو الذي قادته الولايات المتحدة التي وعدتنا بأن العراق سيتحول سريعاً إلى دولة ديمقراطية حرة تكون موضع حسد الكثيرين. غير أن خمس سنوات مرت حتى الآن تنسف كل تلك الادعاءات.
ها هي تركيا تقوم بعمليات عسكرية في شمال العراق، وجنوب البلاد أصبح خاضعاً للهيمنة العقائدية الإيرانية، فيما بغداد ومحيطها ما تزال تعاني من هجمات المسلحين. ومع ذلك تمضي الولايات المتحدة في شطحات بعيدة لإقناع العالم بأن العراق أصبح على مشارف السلام والنهضة الاقتصادية رغم كل الدلائل على الأرض التي تثبت العكس. إن من السهل ادعاء ذلك من خلف جدران المنطقة الخضراء الآمنة.
هنا اجد نفسي مضطراً للسؤال عن السبب الذي يجعل زيارات الرئيس بوش للعراق تتم في غاية السرية ودون الغعلان عنها فيما الرئيس الإيراني محمود #أحمدي_نجاد يعلن عن زيارته لبغداد مسبقاً وينطلق بموكبه في العاصمة العراقية تحت الحماية الامريكية ليستقبله الرئيس جلال الطلباني استقبالاً حميماً.
بلغت تكلفة غزو العراق حتى الآن مئات الآلاف من القتلى العراقيين وأكثر من 4 آلاف من جنود التحالف كما أنفقت الولايات المتحدة عليه ثلاثة #ترليونات_دولار حسبما نشر مؤخراً في كتاب جوزيف ستيغليتز ولندا بيلميز "حرب الثلاثة #ترليونات_دولار." كما زعزعت هذه الحرب مصداقية أمريكا. كيف أمكن لواضعي استراتيجيات السياسة الخارجية ومراكز القرار في واشنطن ارتكاب مثل هذه الأخطاء وهم ألمع العقول في العالم؟ لم كل هذه التضحيات ولتحقيق أي هدف؟
كما أن النظام الانتخابي الذي رعته ودعمته الولايات المتحدة يشكل إخفاقاًآخر لها في العراق، فلقد أفرز رئاسة وحكومة وبرلماناً يغلب عليهم الطابع العقائدي الديني بدلاً من الانتماء الوطني العراقي.
الامريكيون ارتكبوا أخطاء في فلسطين أيضاً. فبعد وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في 2004 بشهرين، تم انتخاب محمود عباس رئيساً للسلطة الفلسطينية. وحينها وصف المراقبون عباس بأنه شخص يمكن للولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل أن تتعاون معه للتواصل إلى اتفاقات.
ولكن بدلاً من تعزيز موقف عباس، أخذت إدارة بوش تعزف نغمة "#الشرق_الأوسط_الجديد" وأصرت على إجراء انتخابات حرة في فلسطين. ولكن بعد تقديم التهنئة للشعب الفلسطيني على انجازهم لهذه الانتخابات الحرة، انبرت واشنطن للعمل من أجل الإطاحة بحماس التي فازت بهذه الانتخابات، كما أصبح معروفاً من وثائق تسربت من وزارة الخارجية الأمريكية.
في عدد مارس 2008 من مجلة "فانيتي فير" يقول #ديفيد_روز إنه بعد الإخفاق في توقع انتصار حماس على فتح في انتخابات 2006، مهد البيض الأبيض الطريق لما أصبح إخفاقاً آخر له في الشرق الأوسط، وكاد الأمر يصل حد إثارة حرب أهلية في غزة وخرجت حماس من هذه المواجهة أكثر قوة مما كانت عليه.
الآن وبعد أن ثبت أن قوى اجنبية هي التي تسببت بهذا الشقاق بين فتح وحماس، يتوجب عليهما الآن أن يتوصلا إلى تسوية يضعان فيها خلافاتهما جانباً.
قطاع غزة أصبح مقفلاً ويرزح تحت الحصار الإسرائيلي فيما تتوسع المستوطنات الإسرائيلية ويتواصل الانقسام الفلسطيني. غير أن كل ذلك لم يمنع وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس من افتعال الابتسامات وتقديم الوعود بإنجاز حل يقوم على دولتين نهاية هذا العام.
إن على الإدارة الأمريكية الآن دعم السلطة الشرعية الفلسطينية بقيادة محمود عباس دعماً حقيقياً هذه المرة في مفاوضاتها مع إسرائيل والعمل مع تلك السلطة لإقناع حماس بالاندماج مع سياسة تلك السلطة وبالتالي قطع حماس لاتصالاتها مع القوى الاجنبية التي بالقطع لا تريد الخير للشعب الفلسطيني وإنما تنظر إلى مصالحها وصرباعاتها الإقليمية.
والقوى الخارجية هي التي تقف وراء الفرقة في لبنان أيضاً حيث يستمر العجز عن إنجاز الاستحقاق الرئاسي منذ انتهت ولاية الرئيس السابق أميل لحود في نوفمبر الماضي.
وفيما يتواصل النزيف الاقتصادي والسياسي الذي يتعرض له لبنان، أصبح اللبناني منقسماً بين تحالف 8 آذار الموالي لسوريا وإيران بقيادة حزب الله وتحالف 14 آذار المدعوم عربياً ودولياً.
البيت الأبيض كرر بعالي الصوت تأكيده على دعم رئيس الوزراء اللبناني #فؤاد_السنيورة. كما كررت رايس وغيرها من مسؤولي الخارجية الأمريكية زيارتهم لبيروت محملين بالوعود. غير أن الكلام لا يكلف كثيراً، فخلال الحرب الإسرائيلية علىلبنان في 2006 ناشد السنيورة الولايات المتحدة للضغط على إسرائيل وإجبارها على وقف إطلاق النار غير أن مناشداته لم تلق أذناً صاغية لأن إسرائيل طلبت مزيداً من الوقت لتزيد من حجم الكارثة.
كما قدمت واشنطن وعوداً بتوفير مساعدات مالية كبيرة للحكومة اللبنانية غير أن معظم هذه الوعود كانت مشروطة بقدرة السنيورة على تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة والتي لم يتمكن من إنجازها لأن حكومته منقسمة.
وفي المقابل دعمت إيران حزب الله بحوالي مليار دولار أمريكي مما جعله قادراً على الشروع بعمليات الإعمار بعد الحرب فيما كانت الحكومة اللبنانية تطوف العالم بحثاً عن المال. وكل بيت اعاد حزب الله بناءه ساهم في دعم قاعدته الشعبية.
واليوم تتوجه معظم تهديدات الرئيس بوش نحو إيران. وكلما زادت حدة التهديدات ترتفع شعبية الرئيس #أحمدي_نجاد وكلما ارتفعت شدة العقوبات الدولية التي تعمل واشنطن على فرضها تضعضع وضع المعتدلين في إيران. وفي نهاية المطاف فإن المتضرر الوحيد من هذه العقوبات هم الناس العاديون الذين يكابدون لمواصلة أعمالهم وكسب رزقهم.
من غير المعقول ألا يكون البيت الأبيض قد تعلم الكثير من أخطائه. ومن غير المعقول أيضاً أن تستمر منطقتنا في الاعتقاد بأن أمريكا قادرة على تحقيق السلام والرخاء والديمقراطية والحرية، حتى وإن كانت المدمرات الأمريكية تقف قبالة السواحل اللبنانية.
الأمل هو في أن تكف الإدارة الأمريكية المقبلة عن مواصلة تقديم الوعود الفارغة والتهديدات الجوفاء وأن تعمل على لعب دور الوسيط في حوار حقيقي في المنطقة، وهو ما سيكون المخرج الوحيد لتحقيق الامن والسلام الذي نريده جميعاً. وإن لم تعمل، فإننا نعتقد أن دول المنطقة قد تعلمت بأتن يكونوا أكثر تمحيصاً في الوعود.
ولعل وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنغر كان صادقاً في وصفه لواقع الحال حينما قال إن "أمريكا ليس لديها أصدقاء، بل مجرد مصالح." وحرى بالعرب اليوم الآن أن يتعلموا من هذه الكلمات ويعتمدوا منهجاً مماثلاً لتحقيق مصالحهم.