لأيام خلت تابعت عبر شاشات التلفزة الكلمة التي ألقتها سيدة #البيت_الأبيض السابقة والمرشحة لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية #هيلاري_كلينتون. الملاحظة الأولى التي إستوقفتني في الكلمة المرتجلة كانت في تأكيد السيدة كلينتون" على أن الحزب الديمقراطي هو عائلة واحدة وتكوين سياسي واحد منسجم ومتآلف." أما الملاحظة الثانية التي لفتت انتباهي كانت في توجهها الصادق وطلبها الواضح من جميع حكام الولايات ومن الشيوخ والنواب ومؤيديها بشكل خاص، أن يقترعوا بشكل كثيف وكبير الى جانب المرشح باراك أوباما؟
الملاحظتان طبعاً قد تكونان من النوع العادي أو المألوف في أمريكا وفي بعض أنحاء أوروبا. إلا أنهما تبدوان في غاية الغرابة لدينا نحن في العالم العربي. ووجه الغرابة ليس في خطوة المرشحة الأمريكية، بل في مقارنة ذلك مع ما يحدث لدينا في بعض أنحاء العالم العربي من تنازع وتقاتل وتذابح عند مفترقات مماثلة وفي ظروف أقل من ذلك بكثير، ولأسباب أو لموقع دونها ودون موقع الرئاسة الأمريكية سنوات وأزمنة ضوئية ربما. لا أدري ولعلي ادري كيف إندفع الى خاطري فجأة صور ووقائع الإنقسامات التي تحدثها السلطة. أية سلطة حتى لو كانت تتعلق برئاسة بلدية أو منصب نيابي أو موقع وزاري في أكثر من منطصة وحكم عربي. لكن السيدة كلينتون سحبت ترشيحها لصالح مرشح منافس ووضعت نفسها وكل ما تملك في خدمة هذا المرشح للوصول الى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
ربما كانت هذه المقارنة تدخل في خانة الخطيئة، أو الجرم الغير معتمد، وربما كانت نوعاً من الشطط الفكري الذي لا يجوز؟ فيه ظلم لكلا الطرفين. أعلم ذلك، ولكن مجرد المقارنة ولو العرضية تبدو في غير مكانها، على الرغم من أن ناقل المقارنات ليس بكافر، حتى ولو كانت هذه المقارنة كفراً. لقد قالت السيدة كلينتون في خطابها انها تدعم منافسها المرشح باراك حتى الإنتصار والوصول الى رئاسة الولايات المتحدة الامريكية والبيت الأبيض. هل هذه عظمة الديمقراطية فقط، أم أننا أمام سيدة عظيمة فقط، أم أننا أمام شعب يحترم ديمقراطيته ونفسه وكيانه وحضارته، ام نحن أمام عظمة الممارسة السياسية، أم نحن أمام تجربة شعوب تجاوزتنا بمراحل وأزمنة وحقبات، أم نحن أمام كل هذا مجتمعاً؟
كان بإمكان هذه السيدة الأولى السابقة أن تنسحب من المعركة الإنتخابية لأية أسباب، خاصة أم عامة، شخصية أم إجتماعية، وتحزم حقائبها وترحل الى أي مكان من العالم لقضاء أجازة مثلاً، أو لمتابعة أعمالها اليومية، كان بإمكانها أن تنسحب من هذا السباق الرئاسي وتلوذ بمنزلها العائلي، ولن يلومنها أحد على ذلك، سواء إعتكفت أو ذهبت للسياحة أو للأعمال، فهذا إختيار شخصي، أما أن تنسحب من المعركة وتعمل لإنجاح منافسها، وتحث مؤيديها على الإقتراع له، فهذا عمل يدخل في دائرة الإنجازات التي تستحق الثناء والتقدير والإعجاب بهذه السيدة التي آثرت تقديم مصلحة وطنها وتيارها السياسي على مصالحها الخاصة. إلا أنها وعندما أدركت أن الديمقراطية تقتضي منها الانسحاب كانت مطواعة وصادقة، وإنسحبت بهدوء. كما ترشحت بهدوء وإحترام وكانت واثقة وشريفة في الإنسحاب، كما في الترشح. لن اعود الى المقارنات بين الديمقراطية وبين أدعياء هذه الديمقراطية في بعض بلداننا العربية ولكني أجزع عندما اتذكر كيف يترجمون الديمقراطية وكيف يمارسونها في بعض أنظمتنا العربية. فالمنافسة الإنتخابية لدينا ربما إستدعت حروباً وإستجرت ويلات. والمنافس الإنتخابي هو عدو وخائن وعميل يجب إجتثاثه والقضاء عليه، والوصول الى المناصب والمواقع والرئاسات لدينا هي معارك مستمرة ومشاريع حروب لا تبقى ولا تذر وقد تذهب الأوطان والشعوب حتى تبقى الرئاسات والمناصب.
إن ديمقراطيتنا هي مهازل مكتوبة ومشهودة وموصوفة، فنحن لا نملك الصدق ولا الأمانة ولا الحرية حتى نكون ديمقراطيين. ولا نملك الثقافة ولا العلم ولا التطور، ولا الرغبة في التطور حتى، لكي نعيش في رحاب الديمقراطية وخيرها العميم. إننا لا نملك الغيرة على أوطاننا ولا الحب لأرضنا وتاريخنا وتراثنا حتى نستطيع الزعم و الإدعاء باننا نعيش حتى على حفاف الديمقراطية الفعلية والحقيقية. إننا أدعياء ديمقراطية، واهمون بما لا نملك حتى إننا لا نعرف أحجامنا ولا لبوسنا أو حدودنا ومدى بعدنا عن الديمقراطية تلك، نتوهم أشياء ونزعم أشياء أخرى لا نستطيع تنفيذها أو حتى مقاربتها. غشاوات كثيرة تحول بيننا وبين الواقع، منها ما إبتدعناه عير أخيلة واهنة دعية، ومنها ما تعامينا عنه عبر التطاول ومد الأعناق نحو أوعية الغرب ومحاولة إستنساخ تجاربه وإستيرادها وتعميمها بشكل ببغائي.
ولا أدري لماذا نعيد الى أذهاننا نحن العرب والى تجاربنا موضوع الديمقراطية الحقيقية الذهبية التي شهدت تألقها في عصر الخلفاء الراشدين. يوم كان المواطن العربي يفتخر بوطنه ويقتات على كرامة أرضه. وتحضرني بمناسبة هذه المقالة مثال ناصع على عظمة الديمقراطية العربية الإسلامية الحقيقية وهي عندما جاء الى الأراضي المقدسة رسول روماني يحمل رسالة الى أمير المؤمنين سائلاً: أين قصر أمير المؤمنين؟ فأجابه أحد المارة ضاحكاً ومتعجباً قصر أمير المؤمنين هناك. وأشار بيده نحو شجرة وارفة الظلال كان سيدنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يتفيأ بظلها وينعم بإغفاءة عابرة، فما كان من الموفد الروماني إلا أن قال لسيدنا عمر (رضي الله عنه): لقد حكمت فعدلت، فنمت فآمنت.
واقعة أخرى في هذا السياق تدل على عمق الديمقراطية العربية والرجاء والتسامح التي إتسم بها الخلفاء الراشدين يوم كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)يخطب في المصلين خلال صلاة الجمعة. ويدعو الى العدالة والعطاء والتسامح فقاطعه أحد المصلين قائلاً لا سمعاً ولا طاعةً يا ابن الخطاب، أين عدالتك وأنت ترتدي هذا الثوب الطويل وعلى نفقة خزينة الدولة ونحن ليس لدينا مثله، فأشار سيدنا عمر إلى إبنه عبدالله ليجاوب المصلي المعترض، فقال عبدالله: إن أمير المؤمنين أخذ قسماً من ثوبي ليكمل به ثوبه، ليتناسب مع طول قامته (لأن أمير المؤمنين كان يتمتع بقامة فارعة الطول).
قصتان معبرتان، وبوقائع الأشياء لا أطلب من أدعياء الديمقراطية أن يتماثلوا بعدالة "الفاروق" (رضي الله عنه) الذي حكم وعدل. وقد لا يستطيع أحداً أن يجاريه في عدالته وقيادته وحكمته في الكثير من البلدان العربية. ولكنني أؤكد على أن بعض بلداننا العربية بحاجة الى حاكم عادل يرسي الأمن والأمان ويعطي الإطمئنان لشعبه، وهذا ما يحتاجه المواطن الذي يروم للعيش الكريم وليس الى الإنتخابات والديمقراطيات المستوردة والأحزاب والعقائد البعيدة عن واقعنا كل البعد.