صحيح أنه ليس بإمكان القوى الغربية أن تدّعي أنها صاحبة أيادٍ بيضاء في الشرق الأوسط، إلا أن هذا ينطبق أيضاً على العرب. فلطالما تهرّب معظم القادة العرب من مسؤوليتهم بالدفاع عن شعبهم، وتطلّعوا طوال عقود إلى "بابا أمريكا" وحلفائها للحصول على الحماية، وهم يعرفون حق المعرفة أن كل ما تسعى إليه السياسة الخارجية الأمريكية هو تحقيق مصالحها الأمنية والجيوسياسية الخاصة.
خلال زيارتي الأخيرة إلى الولايات المتحدة للانضمام إلى #الرئيس_جيمي_كارتر في الإعلان عن مبادرة جديدة من أجل السلام بين الإسرائيليين والفسطينيين في جامعة إيلينوي، كانت لي فرصة لقاء أصدقاء قدامى فضلاً عن بعض المسؤولين الرفيعي المستوى. أنا من أشدّ المعجبين بالشعب الأمريكي. وقد لقيت معاملة بغاية اللطف من عدد كبير من الأمريكيين. بيد أن السياسة الخارجية الأمريكية مسألة مختلفة تماماً؛ فهي لا تعرف صديقاً، ولا تكترث سوى لمصالحها. وقد قالها رئيس وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه) ووزير الدفاع سابقاً، ليون بانيتا، بوضوح في كتابه "معارك تستحق العناء" (Worthy Fights). لستُ أعترض على ذلك؛ لكن حان الوقت كي نقرأ نحن العرب في الكتاب الأمريكي.
فضلاً عن ذلك، حتى لو كانت الولايات المتحدة ملتزمة بدعمنا والدفاع عنا، لم تحقّق مقاربتها النتائج المرجوّة. لقد كتب السفير تشارلز دبليو فريمان: "نحاول [أي الولايات المتحدة] التأقلم مع النتائج التراكمية للإخفاقات المتعددة. تقريباً كل المشاريع الأمريكية في الشرق الأوسط منيت بالفشل". يشير فريمان عن حق إلى أن "السياسات الأمريكية لم تنتج ديمقراطية في أي مكان. بل تسبّبت بزعزعة استقرار المجتمعات، وإشعال الحروب الدينية، وإرساء أنظمة ديكتاتورية تزدري حقوق الأقليات الدينية والإثنية".
تكون واشنطن صديقة جيدة عندما تلتقي مصالحها مع مصالحنا أو عندما تكون الموارد الطبيعية التي تسعى للسيطرة عليها مهدّدة. لقد تحوّل إلقاء اللوم على الغرب لتسبُّبِه بصورة مباشرة أو غير مباشرة في مصائبنا، ذهنية عقيمة منتشرة في مختلف أنحاء العالم العربي. نحن مخطئون في إلقاء اللوم على الولايات المتحدة لأنها تردّدت في التحرّك لمساعدتنا. لدى أمريكا أولوياتها الاقتصادية والأمنية. علينا احترام ذلك الواقع، وتقدير كل الأشياء الجيدة التي وصلتنا من الغرب والامتناع عن إدانة أي بلد يسعى إلى تحقيق مصالحه. من الأجدى بنا نحن العرب، حكومات وشعوباً، أن نمضي وقتاً أقل في التهجّم على أمريكا ونركّز أكثر على استنباط السبل الفضلى للاعتماد على أنفسنا.
لطالما ناشدتُ الحكومات العربية في مقالاتي اتخاذ خطوات استباقية من أجل وضع حد للنزاعات الإقليمية وإثبات حضورنا أكثر على الساحة الدبلوماسية. نحن نملك جيوشاً مدرّبة كما يجب، وأجهزة استخباراتية تتمتّع بالكفاءات اللازمة، وأسلحة متطوّرة؛ المطلوب هو التحلّي بما يكفي من الإرادة والتصميم لتغيير ذهنية الضحية التي ورثناها من الحقبة العثمانية والإمبريالية الغربية والمعاهدات الأمنية مع القوى الأوروبية. لماذا لا يعي العرب أن تلك الأزمنة قد ولّت، وأنه علينا الآن أن نتدبّر أمورنا بأنفسنا؟
في الحقيقة، وُلدت فكرة هذا المقال انطلاقاً من تعليقات القرّاء الذي أبدوا آراءهم حول هذا الموضوع، والتقوا معي في وجهة نظري. فقد ورد في تعليق أحد القراء على مقالي المنشور مؤخراً عبر موقع "العربية" بعنوان: "على قادة العالم أن يعلّقوا رؤوسهم خجلاً": "توقّفوا عن الصراخ إلى الولايات المتحدة كي تنقذكم؛ توقفوا عن الصراخ بأن الولايات المتحدة هي المسؤولة... أنقذوا أنفسكم". وجاء في تعليق آخر: "لماذا لا يرسل العرب... جيوشهم للتخلّص من الأسد وداعش؟" هناك تعليقات عدة مشابهة، منها بعض التعليقات غير الصالحة للنشر. إنه لأمر غريب أن القرّاء يدركون ذلك، في حين أن العرب لا يدركونه أو لا يستطيعون إدراكه، أو لا يريدون ذلك.
ليس من واجب الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة الدفاع عن منطقتنا، وعلى ضوء النزاعات الإقليمية والإرهاب والتهديد المتنامي من إيران التي تتباهى علناً بأن عملاءها يسيطرون الآن على أربع عواصم عربية - بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء - ليست المحاججة التي أعرضها محض أكاديمية. يتربّص بنا الأعداء في الداخل والخارج ويخطّطون لاجتياح أوطاننا. يتوجّب علينا حماية حدودنا. لا يمكننا أن نجلس مكتوفي الأيدي معوّلين على وعود فارغة من القادة الغربيين الذين يحاولون الآن الدخول في صفقة كبرى مع الأئمة الإيرانيين.
ودول مجلس التعاون الخليجي على وجه التحديد شديدة التأثر إزاء الهيمنة الإيرانية والأيديولوجيات المريضة التي تشوّه رسالة الإسلام الحقيقية. لذلك ناشدت مراراً وتكراراً الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي المبادرة سريعاً إلى التحرك، ولم أكفّ عن توجيه هذا النداء ليس فقط عبر مقالاتي إنما أيضاً خلال النقاشات التي أجريتها وجهاً لوجه مع مسؤولين كبار. هل ما زلنا نتخيّل أن العم سام سيرسل سلاح الفرسان؟ في هذه الحالة، علينا أن نفكّر ملياً ونعيد النظر في تصوّراتنا.
ربما فقدت الدول العربية الغنية بالنفط منفعتها من وجهة نظر صنّاع السياسات الأمريكيين. قرار الرئيس أوباما تحويل السياسة الخارجية بعيداً من الشرق الأوسط أمر معلوم جيداً، وخير دليل على ذلك تردّده في إطاحة نظام الأسد وخطواته الرمزية المحدودة للقضاء على "داعش" في سوريا والعراق. ومن أسباب هذا الابتعاد عن الشرق الأوسط أن الولايات المتحدة باتت تتمتع بالاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة، لا بل أكثر من ذلك، باتت تملك فائضاً. لقد تخطى الإنتاج الأمريكي من النفط الصخري الإنتاج السعودي والروسي من النفط الخام. وأصبحت الولايات المتحدة اليوم المنتجة الأولى للغاز في العالم، ومن المتوقّع أن تحتل المرتبة الأولى أيضاً في إنتاج النفط العام المقبل.
يتضاءل تعطّش الغرب إلى النفط العربي ويترافق مع تراجع تأثيرنا العالمي. بيد أن استخراج النفط الصخري مرتفع الكلفة، لذلك عمد العديد من البلدان العربية المصدِّرة للنفط إلى خفض الأسعار أملاً في التمسّك بأوراق المساومة المتبقّية. يذكّر السفير فريمان واشنطن عن حق بأنه على الرغم من أن إنتاج النفط والغاز يشهد طفرة في الولايات المتحدة، يجب أن تستمر هذه الأخيرة في إيلاء أهمية لما يجري في الشرق الأوسط، لأن الخليج هو "المنطقة حيث يتم تحديد أسعار النفط العالمية"، كما يقول، قبل أن يضيف: "في غياب الاستقرار في غرب آسيا، لن يكون الاقتصاد العالمي مستقراً أيضاً".
أن يدير الغرب ظهره لحلفائه التقليديين ينمّ ربما عن قصر نظر، لكن لم يعد بإمكاننا أن ندفن رؤوسنا في الرمال مثل النعامة وندّعي أن واشنطن ولندن وباريس تكترث لأمان شعوبنا أو تعمل على ترسيخ الأمن والاستقرار في مجتمعاتنا. لقد فشلت الجهود التي تبذلها تلك البلدان من أجل تعزيز الديمقراطية، بعدما أمسكت الأحزاب الإسلامية بزمام السلطة، وفتح التعصّب المذهبي أبواب الجحيم، وانتهز الإرهابيون الفرصة للانقضاض علينا. والآن بعدما خسر نفطنا بريقه وسط أنهر النفط التي تفجّرت في تلك البلدان، الرسالة الأساسية التي توجّهها إلينا العواصم الغربية هي التالية: "شكراً جزيلاً، لقد تشرّفنا بمعرفتكم". لن أفاجأ إذا استيقظت ذات يوم لأجد أن المرشد الأعلى الإيراني قد فُرِض حاكماً علينا، تماماً كما نُصِّب الشاه حاكماً إلى أن فقدَ حظوته.
لم أعد أبالي بالوعود الغربية. ما يهمّني هو معرفة ما الذي سيتم فعله عندما يتحوّل تنظيم "داعش" نحو مهاجمة السنّة. ما الخطوات التي سنتّخذها لإحباط سيطرة الحوثيين الشيعة على اليمن ووصولهم إلى أبواب السعودية وعُمان؟ حتّامَ سنستمر في إطلاق يد نظام الأسد لمواصلة حكمه السرطاني الذي كان يمكن، قبل بضع سنوات، شفاؤه بواسطة جرعة من العلاج الكيميائي قبل أن يتفشّى في الجسم؟
ما مضى قد مضى. يمكننا أن نوزّع اللوم والمسؤوليات إلى ما لا نهاية. ويمكننا أن نرفع هواجسنا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أيضاً من دون الحصول على أية نتيجة. وحده المسار الذي سنسلكه في المستقبل يمكن تغييره. يمكننا أن نصنع الغد بأنفسنا، وعلينا أن نفعل ذلك، وإلا سنترك لأولادنا وأحفادنا إرثاً من العار ولن ترحمنا دموعهم.