تنتاب مشاعر من الإستياء الشديد الحلفاء الأقرب إلى أمريكا في المنطقة بعد سلسلة من الصدمات التي تلقّوها من قبل إدارة أوباما والتي تتسبّب بتقويض أمنهم القومي ومصالحهم الوطنية. فربما دفعت التطورات الأخيرة بالسعودية إلى التساؤل "من يحتاج إلى أعداء بوجود أصدقاء من هذا القبيل؟" كما ألمحت تقارير بثّتها وسائل إعلام كبرى.
نُقِل عن رئيس الاستخبارات السعودية، الأمير بندر بن سلطان، قوله إن بلاده تُجري "تحوّلاً كبيراً" في موقفها عبر الابتعاد عن الولايات المتحدة التي كانت تربطها بها شراكة ذات منفعة متبادلة استمرّت منذ عام 1932 عندما بدأت العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدَين. ومن التداعيات التي يمكن أن تترتّب عن هذا التدهور في العلاقات توجُّه الرياض نحو مصادر بديلة للحصول على الأسلحة، أو تقييد الامتيازات النفطية التي تتمتّع بها الولايات المتحدة، أو قيام السعودية ببيع سندات الخزينة الأمريكية التي بحوزتها وسحب استثماراتها الأخرى في الولايات المتحدة.
فالسعودية، مدعومةً من معظم دول الخليج، ضاقت ذرعاً من الخطوات المتقلبة التي يقوم بها الرئيس أوباما في السياسة الخارجية والتي تكاد تنمّ عن ازدواجية في المعايير، ولم ترقها أيضاً الانعطافات التي شهدتها ولايته الثانية، ما أدّى إلى تقويض الثقة بأمريكا والتشكيك في مدى استعدادها للتعاون مع المملكة وحلفائها السنّة.
ينفي وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أن يكون هناك أي تصدّع في العلاقات بين البلدَين. لا شك في أنه يعيش حالة من النكران، فيما ينعكس ذلك من خلال الأسواق العالمية. فقد سجّلت أسعار النفط أعلى مستوى لها منذ ستّة أشهر بعد ساعات من انتشار الأنباء عن الغضب السعودي من السياسة الأمريكية. لسوء حظ الولايات المتحدة، النقمة السعودية من الصفقة الأمريكية مع روسيا حول تفكيك الأسلحة الكيميائية السورية، والتي تعتبر المملكة أنها تمنح شرعية لنظام الأسد، أمرٌ واقع لا يمكن التغاضي عنه.
لقد أضاع أوباما البوصلة. فمقتل الأبرياء مأساة سواء سقطوا ضحيّة الأسلحة الكيميائية أم نيران الأسلحة التقليدية أم القصف الجوي. ماذا ينفع إذا تخلّت سوريا عن غاز السارين الذي أودى بحياة المئات، واحتفظت بهذه الأسلحة التي تسبّبت حتى الآن بمقتل أكثر من 120 ألف شخص؟ أُنجِزت هذه الصفقة مع الشيطان ليتمكّن الرئيس الأمريكي من الحفاظ على ماء الوجه، من دون الاكتراث لملايين اللاجئين الذين يواجهون شتاءً قارساً في المخيّمات التي يُقيمون فيها، أو لأولئك الذين يجازفون بحياتهم في طريقهم إلى الشواطئ الأوروبية حيث يمكن أن يلقوا مصيراً قاتماً في مياه البحر الأبيض المتوسّط.
غرزت السعودية مخرزاً في عين الولايات المتحدة عبر رفضها شغل مقعد غير دائم في مجلس الأمن الدولي بسبب ما يُظهره من "ازدواجية في المعايير" وعدم فاعلية في العمل من أجل إقامة دولة فلسطينية وإرساء السلام في سوريا. تحيّة إجلال للمملكة لأنها اتّخذت موقفاً حازماً في مواجهة عجز المجتمع الدولي، ومن أجل المطالبة عن حق بتفعيل مجلس الأمن، وقد لاقاها في موقفها هذا كلٌّ من جامعة الدول العربية، ومنظّمة المؤتمر الإسلامي، ومجلس التعاون الخليجي، وتركيا. وقد أحسنت السلطات السعودية بعدم المشاركة في هذه المهزلة الهادفة إلى الحفاظ شكلياً على عدد الدول الأعضاء في مجلس الأمن، في حين أنه بمقدور واحد من الأعضاء الخمسة الدائمين أن يشلّ المجلس بكامله.
تدقّ واشنطن المسمار تلو الآخر في نعش العلاقات الأمريكية-الخليجية منذ إحجامها عن دعم التدخّل العسكري السعودي-الخليجي في البحرين لكبح تمرّد عنيف مدعوم من إيران. واعتُبِرت الإجراءات العقابية التي اتّخذتها الولايات المتحدة بحق الجيش المصري الذي يخوض مواجهةً مع مثيري الشغب المنتمين إلى "الإخوان المسلمين" ومع الجماعات الإرهابية في سيناء، بأنها صفعة إضافية للسعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت التي تستثمر معنوياً ومادياً في الأمن والاستقرار في ذلك البلد العربي الأكثر اكتظاظاً بالسكّان.
ومما لا شك فيه أن المسمار الأسوأ على الإطلاق هو تودّد الإدارة الأمريكية إلى إيران التي يُفترَض بأنها "عدوّتها اللدودة"، والتي يبدو أن قيادتها تسعى إلى التقرّب من الغرب من أجل دفع الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى رفع العقوبات عنها. كيف يُعقَل أن ينخدع مستشارو الأمن القومي في إدارة الرئيس الأمريكي بهذه السهولة بكلام أحد الملالي المعسولي اللسان مثل روحاني وهو يسعى جاهداً لإنقاذ الاقتصاد الإيراني المنهار؟ ما هو على المحك أكبر بكثير من مجرد مساومة على سعر سجادة فارسية.
لا يمكن التصديق بأن الجانبَين يسعيان إلى المسامحة والنسيان بين ليلة وضحاها؛ فلا بد من أن مباحثات تجري بينهما خلف الكواليس منذ أشهر عدّة. لقد أثنت كاثرين أشتون، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، على المحادثات بين المفاوضين الإيرانيين ومجموعة "5+1" التي تضم ست قوى عالمية، واصفةً إياها بأنها "جوهرية وتتطلع إلى الأمام". حتى لو كان ذلك صحيحاً، منذ متى تفي إيران بوعودها؟ ألم تكن المشكلة منذ اليوم الأول الارتياب من النوايا النووية الإيرانية؟
تسير إيران بخطى سريعة نحو تحقيق الانفراج في علاقتها مع الغرب. فقد بدأت كل من المملكة المتحدة وإيران استعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع المملكة المتحدة؛ ويُتوقَّع أن يحصل الشيء نفسه مع الولايات المتحدة شرط أن تتكلّل المحادثات النووية بالنجاح. قال مسؤول كبير في البيت الأبيض "إذا كانوا مستعدّين للتعاون، فنحن أيضاً مستعدّون". مرّة أخرى، يركّز الغرب على التفاصيل فيما يتجاهل الجوهر. فالبرنامج النووي الإيراني مجرد جانب واحد في عملة واحدة متعدّدة الأوجه.
من شأن إعادة تأهيل إيران في مجموعة الأمم أن يؤدّي إلى تعزيز أطماعها التوسعية في المنطقة فيما يتسبّب ذلك بمزيد من الهشاشة لدول الخليج. ويمنح أيضاً زخماً لـ"حزب الله"، عميلها اللبناني، الذي يقاتل حالياً إلى جانب الحرس الثوري الإيراني في سوريا، كما أنه يرسّخ مكانة الحكومة التي يسيطر عليها الشيعة في العراق. وسوف يؤدّي ذلك إلى التغاضي عن الدعم الإيراني المادّي للحوثيين في اليمن، وعن الروابط الأكثر غموضاً التي تربط طهران بتنظيم "القاعدة" الذي أتيح لعملائه - سيف العدل وعبد الله أحمد عبد الله وسليمان أبو غيث وأبو حفص الموريتاني - على ملاذ آمن في إيران.
يدرك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حقيقة ما يجري، ويمارس ضغوطاً لدى الولايات المتحدة لتنبيهها إلى وجوب عدم الانخداع بالكلام المعسول والمضلل الذي يصدر عن الرئيس روحاني، لكن واشنطن لا تأبه لمخاوفه وتعتبرها مجرّد صراخ هستيري ينمّ عن رغبة في إفساد التقارب الإيراني-الأمريكي. فالعم سام لا يعير آذاناً صاغية لنتنياهو في هذه المسألة، ويمضي في مساعيه للتقرّب من إيران التي يبدو أنها ستصبح الصديقة المفضّلة الجديدة للولايات المتحدة. السؤال المطروح هو لماذا؟
يشعر أصدقاء أمريكا الأوفياء في المنطقة بالذهول والارتياع إزاء المنحى الذي سلكته الأحداث مؤخراً. يدرك القرّاء الذين يتابعون مقالاتي بانتظام أنني توقّعت أن تصل الأمور إلى ما وصلت عليه الآن. فلطالما نبّهتُ دول مجلس التعاون الخليجي إلى وجوب توخّي الحيطة والحذر من المنحى الذي تتّخذه الأحداث، وذلك من خلال مقالاتي في الصحف، والرسائل التي وجّهتها إلى القادة الخليجيين، والتقارير والاجتماعات وجهاً لوجه. الآن بعدما تنبّهت السعودية إلى الخطر، تلوح وأخيراً بادرة أمل في الأفق. لقد ولّى زمن الاتّكال على الآخرين. باتّحادنا واستقلالنا، وبمعونة الله تعالى، نستطيع أن نجابه بعزم وقوّة.