#لقد_وقع_المحظور. ففيما كان الاقتصاد الأمريكي المتعثّر يستعيد عافيته مع ما يرافق ذلك من تأثير إيجابي على الأسواق العالمية، أغلقت الحكومة الفدرالية دوائرها بسبب الخلاف حول الموازنة. وقد أُرغِم نحو 800 ألف موظّف حكومي على أخذ إجازة غير مدفوعة؛ وطُلِب من الكوادر الأساسية متابعة العمل من دون أجر، في حين تأثرت السياحة بسبب إغلاق المتنزّهات والمتاحف الوطنية. باتت الحدود الأمريكية غير محميّة، تحرسها فرق أمنية غير كافية، وعُلِّقت المحاكمات في قضية أدوية السرطان.
لا يمكن في ظل هذا الوضع إلقاء اللوم على المصارف والمؤسسات المالية #الجشعة، كما حصل خلال الأزمة المالية عام 2008. أتعاطف مع الموظفين الحكوميين ذوي الدخل المتدنّي الذي ينتظرون رواتبهم في نهاية الشهر، وقد لا يتمكّنون من تسديد رهونهم العقارية أو أقساط سياراتهم، لكنهم يحمّلون الإدارة الأمريكية والكونغرس مسؤولية الاستخفاف برفاه المواطنين من دون التفكير في تداعيات ذلك على باقي بلدان العالم.
يؤثّر تراجع الدولار الأمريكي إلى أدنى مستوى له منذ ثلاثة أشهر، في العملات الأخرى، وتشهد البورصات المتشنّجة الكثير من التقلّبات. الرابحون الوحيدون هم مصنّعو القمصان التي طُبِعت عليها رسائل تنتقد بحدّة الجهات المسؤولة عن هذه الفوضى؛ إنهم يحقّقون مبيعات طائلة. وهذا ليس مستغرباً! الأمريكيون محقّون في غضبهم. إنها كارثة متعمّدة تسبّب بها الجمهوريون الذين قرّروا أن يحتجزوا البلاد رهينة بسبب برنامج أوباما للرعاية الطبية "أوباما كير"، الذي جرى إقراره وتحوّل قانوناً قبل نحو أربع سنوات عندما كان الديمقراطيون يشكّلون الغالبية في مجلسَي النواب والشيوخ، والذي دخل حيّز التنفيذ في الأول من أكتوبر الجاري.
يكاد يتعذّر على غير الأمريكيين، لا سيما أولئك الذين يعيشون في ديمقراطيات العالم الأول ويعتبرون أن الرعاية الصحية المجانية هي من حقوق الإنسان الأساسية، أن يفهموا كيف يمكن أن يرفض اليمين الأميركي خطة من شأنها أن تمنح ملايين الأمريكيين القدرة على الإفادة من الرعاية الصحية بواسطة التأمين المموَّل من الحكومة. إنه لأمر مثير للصدمة أن 48 مليون أمريكي (15.4 في المئة من السكّان) لا يتمتعون بالتأمين الصحي. يعني هذا أن عدداً كبيراً من المرضى يعجزون عن زيارة الطبيب أو شراء الأدوية لأنهم لا يملكون المال الكافي. أظهر استطلاع أجري عام 2012 أن 41 في المئة من البالغين في سن العمل (75 مليون أمريكي) يجدون صعوبة في تسديد الفواتير الطبية، وأن أربعة ملايين أمريكي أشهروا إفلاسهم بعد تعرّضهم للمضايقات من الدائنين.
ويمكن أن تزداد الأمور سوءاً إذا لم يتم التوصّل قريباً إلى حل لهذا المأزق بين إدارة أوباما والجمهوريين في مجلس النواب. يجب أن يوافق الكونغرس على زيادة سقف الديون الأمريكية بحلول 17 أكتوبر الجاري، وإلا ينهار الاقتصاد الأمريكي ومعه معظم الاقتصادات الأخرى. لقد أعلنت الخزانة الأمريكية أنه من شأن الإخفاق في رفع سقف الديون أن يؤدّي إلى تعثّر الولايات المتحدة عن تسديد ديونها، ما يمكن أن يتسبّب بأزمة مالية شبيهة بتلك التي وقعت عام 2008، إن لم تكن أسوأ. وهذا هو أيضاً رأي كريستين لاغارد، رئيسة صندوق النقد الدولي، التي تقول إن الاتّفاق على سقف جديد للديون "أمرٌ حرج للغاية".
قد يكون الوضع حرج جداً، لكن لا شيء يضمن أن الجمهوريين سيصغون إلى هذا الواقع. من الواضح أن الرئيس أوباما قلق. فقد قال لجون هاروود من قناة "سي بي سي" في 3 أكتوبر الجاري، إن الشارع يشعر بقلق إزاء "التكتّل الانتحاري" للجمهوريين في مجلس النواب الذين قد يرفضون رفع سقف الديون. تتحمّل أطراف كثيرة المسؤولية في هذا الإطار. فالجمهوريون يبتزّون الرئيس كي يتخلّى عن برنامج "أوباما كير" أو يرجئ تنفيذه، أما أوباما فيتمسّك من جهته بتطبيق البرنامج ويقول إنه ليس مطروحاً على النقاش. ناهيك عن عدم وجود أي حوار أو مفاوضات بين الجانبَين من أجل التوصّل إلى مخرج للأزمة، وهكذا تُوجَّه أصابع الاتهام إلى الرئيس الأمريكي أوباما ورئيس مجلس النواب الجمهوري جون بوينر بأنهما يتصرّفان مثل الأولاد الذين يتشاحنون على الكرة في الملعب، لكن ما يقف على المحك هنا هو حياة ملايين الأمريكيين، وكذلك الملايين حول العالم.
يصب الرأي العام جام غضبه في شكل خاص على الجمهوريين. يُظهر إعلان أعدّته لجنة العمل السياسية التابعة للغالبية في مجلس النواب، طفلاً يبكي على وقع الكلمات التالية "لم يتمكّن رئيس مجلس النواب جون بوينر من تعطيل إصلاح الرعاية الصحية، فعمد إلى إغلاق الحكومة وإلحاق الضرر بالاقتصاد". يعوّل الجمهوريون على الذكريات القصيرة فيما يستعدّون لانتخابات مجلس النواب المقرّرة في نوفمبر من العام المقبل.
إذا كانت هذه هي الديمقراطية التي يروّج لها الأمريكيون بأنها الهدف السياسي الأسمى الذي ينبغي على الدول الأخرى الاقتداء به، فليحتفظوا بها. ثمة خلل جوهري في منظومةٍ تبقي بلاداً بأسرها من دون توجّه محدّد، وفي حالة من الشلل، ومن دون موازنة، وعلى الأرجح من دون المال الكافي لتسديد ديونها. مصداقية الدولة الأغنى في العالم التي تُعتبَر مركز الثقل الاقتصادي الذي لطالما حدّد الاتجاهات، تلقّت ضربة قاضية - وقد بدأت الآثار تظهر إلى العلن. ففي مواجهة هذه الأزمة، ألغى أوباما مشاركته في قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ وقمة شرق آسيا اللتين تسيطر عليهما الصين، وقد أحسن صنيعاً. فكيف له أن يسدي النصائح حول الاقتصادات الآسيوية في حين أن اقتصاد بلاده معرّض للانهيار التام؟ وفي موقف محرج، أرجئت أيضاً المحادثات الأمريكية مع الاتحاد الأوروبي حول إتفاقية التجارة الحرة.
خلاصة القول أن الكرة في ملعب أوباما، إنه مَن يتولّى زمام الأمور. إذا تفاقم هذا المأزق أكثر وتسبّب بأسوأ السيناريوهات، فسوف يُعتبَر أوباما عدو العالم الأول. ففي عهده، انحسر التأثير الجيوسياسي للولايات المتحدة. والجهود التي يبذلها من أجل التوصّل إلى اتفاق سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين مجرد دعابة. يكره المصريون بمختلف انتماءاتهم السياسية، إدارته، وقد ألغى وزير الخارجية السعودي، سعود الفيصل، كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة احتجاجاً على عجز المنظمة الدولية عن إيجاد حلّ للمسألة الفلسطينية "منذ أكثر من 60 عاماً"، وعلى زجّ سوريا في "نفق مظلم من المفاوضات والإجراءات" لتجريد الأسد من الأسلحة الكيميائية فيما تتواصل الحرب الأهلية فصولاً في ذلك البلد. إلا أننا ندرك عند القراءة بين السطور، أن الموقف السعودي الرافض موجَّه ضد الولايات المتحدة.
على أوباما ترتيب بيته الداخلي ليس من أجل الشعب الأمريكي وحسب، إنما أيضاً من أجل الحفاظ على صدارة بلاده ومكانتها المرموقة في الهرمية الاقتصادية والسياسية في العالم قبل أن يتّضح أن الولايات المتحدة مجرد نمر هرِم من دون أسنان.