فقدَ الرئيس الأمريكي باراك أوباما بوصلته في التعاطي مع الملف السوري. فإذا كنتم تتابعونه عن كثب كما أفعل أنا منذ إعلانه عن "الخطوط الحمراء" قبل عام، فغالب الظن أنكم ستشعرون بالدهشة والحيرة إزاء التحوّلات والانعطافات التي عرفتها مسيرته في منصب الرئيس والقائد الأعلى للقوات المسلحة في الولايات المتحدة. ارتُكِبت جريمة مروِّعة ضد الإنسانية في 21 أغسطس الماضي. وقد شاهدنا عشرات الأشرطة المصوَّرة التي يظهر فيها أطفال يختنقون، واطّلعنا على تفاصيل الأدلّة التي تثبت ضلوع نظام الأسد في هذه الجريمة. تأكّد لنا أن الردّ سيكون قوياً وحازماً... أو بالأحرى هذا ما خُيِّل إلينا.
ففي اللحظة التي بدا فيها أن الولايات المتحدة تقترب من تنفيذ الضربة، انكفأ الرئيس فجأة. فسلّم السلطة الممنوحة له بموجب قانون صلاحيات الحرب إلى واحدٍ من أكثر مجالس الكونغرس شللاً وانقساماً في المراحل الأخيرة، قبل أن يشنّ حملة إعلامية لإقناع الأمريكيين المتوجّسين من الحرب بصوابية رأيه، فظهر في غضون يومَين فقط في ستة برامج حوارية متلفزة عبر القنوات الأمريكية كما وجّه خطاباً إلى الأمة.
لم يقتنع الشعب الأمريكي ولا غالبية أعضاء الكونغرس بكلامه. وهذا ليس مستغرباً في الوقت الذي وُصِفت فيه الضربات المقترحة بـ"القصيرة والمركّزة" وبأنها ليست أكثر من مجرد "طلقة تحذير" تهدف إلى تعطيل قدرة النظام على شن حرب كيميائية. تساءل المعلّقون ماذا يمكن أن تحقّق صفعة خفيفة على معصم الأسد، واعتبروا أن خطر الانزلاق نحو نتائج غير مرجوّة كبير جداً حتى ولو كانت الإدارة الأمريكية قد أعلنت أن هدفها ليس إسقاط النظام السوري.
كان أوباما يواجه هزيمة محرجة، لكن كان من المستحيل أن يخرج من المأزق الذي أقحم نفسه فيه من دون أن يخسر ماء الوجه، إلى أن مدّه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحبل النجاة عبر التقدّم باقتراح يقضي بتسليم الأسد أسلحته الكيميائية إلى المجتمع الدولي. وقد سارع الأسد إلى اغتنام الفرصة - وكذلك فعل الرئيس أوباما.
كان على أوباما أن يعمل بالقول المأثور "التردد يؤدي إلى الخسارة". تباهى بالاستثنائية الأمريكية - أي المفهوم الذي يعتبر أن القيم الجوهرية الأمريكية تؤهل الولايات المتحدة سلطة قيادة العالم - في خطابه إلى الأمة. لكنه لم يتحلَّ بشيء من خصال القيادة في التعاطي مع المسـألة السورية، فهو لم يفعل شيئاً لوقف الكارثة في ذلك البلد. لو استجاب لمناشدات الاتئلاف السوري المعارض الذي طالب بفرض منطقة حظر جوي ومساعدته على إحكام سيطرته على بعض الأراضي للحصول على ملاذ آمن وتزويده بالأسلحة الثقيلة قبل عامَين، لنجح الجيش السوري الحر في إنهاء النظام. بدلاً من ذلك، تحوّلت أجزاء من البلاد إلى مستنقعات للجهاديين الأجانب والإرهابيين المرتبطين بتنظيم القاعدة.
علاوة على ذلك فأن تقدّم أوباما خطوةً إلى الأمام ومن ثم تراجعه خطوتَين إلى الوراء سمح للأسد بإخلاء المنشآت العسكرية وإخفاء الأسلحة والمعدّات الثقيلة وسط المدنيين. من حقّ المعارضة السورية والمليونَي لاجئ الذين يعتاشون من الصدَقات في تركيا ولبنان والأردن والعراق، وكذلك من حق أكثر من مئتي ألف رجل وامرأة وطفل في سجون الأسد، حيث يتعرّض عدد كبير منهم للتعذيب والاغتصاب؛ أن يشعروا بأنه تمّ التخلّي عنهم.
استعدّ الجيش السوري الحر للهجوم على دمشق عبر تدعيم ألويته وتسليم الإحداثيات العسكرية إلى الاستخبارات الأمريكية، لكن سرعان ما سُحِب البساط من تحت قدمَيه.
إدارة أوباما عاجزة عن رؤية الأمور على حقيقتها، أو أنها غير مستعدّة لذلك. لا شك في أن استخدام الأسلحة الكيميائية أمرٌ مروع، لكن يجب ألا نُسقط من حساباتنا أن أكثر من مئة وثلاثين ألف رجل وامرأة وطفل قضوا بسبب الترسانة التقليدية للنظام. الموت واحد سواء كان سببه الغازات السامّة أو القنابل التي تلقيها الطائرات أو الصواريخ، فهذه الأسلحة تقتل أيضاً بصورة عشوائية. توصَف المباحثات بين وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ونظيره الروسي سرغي لافروف حول تجريد النظام من واحدة من أدواته الحربية، بـ"البنّاءة"، لكن هذا ليس رأي الأشخاص الذين لا يزالون يخسرون ذويهم ومنازلهم أو تُبتَر أعضاؤهم على أيدي قوات النظام.
يتجاهل البيت الأبيض وحلفاء الولايات المتحدة الأوروبيون الصورة الكبرى ويركّزون على التفاصيل. ينظر العالم أكثر فأكثر إلى القوى الغربية بأنها عاجزة وغير أهل للثقة في لعبة الشطرنج الجيوسياسي التي قد يُعلن فيها بوتين وصديقه السوري الحميم ورفاقهما في طهران قريباً "كش ملك". يزعم بوتين أنه لا يدافع عن الأسد بل عن القانون الدولي، لكنه لم يُظهر أي احترام للشرعية عندما اجتاحت القوات الروسية جورجيا عام 2008.
تبقي أمريكا التهديد باستخدام القوة ضد سوريا مطروحاً على الطاولة في حال فشل الأسد في الوفاء بتعهّداته. لكن ما نفع ذلك في الوقت الذي لا يملك فيه أوباما استراتيجية واضحة لإنهاء الحرب الأهلية؟ تدمير بعض قاذفات الصواريخ والطائرات المقاتلة لن يُغيِّر قواعد اللعبة ما دامت موسكو جاهزة لإعادة تزويد النظام السوري بالأسلحة.
تبدي السعودية ودول الخليج استعداداً قوياً لمساعدة السوريين المحاصرين، لكن أكثر من ذلك، تُدرك هذه الدول ما هو فعلاً على المحك؛ ألا وهو قطع ذيل الأفعى التي تزحف من طهران إلى دمشق عبر بيروت. خطأها الأكبر أنها تعوّل على الولايات المتحدة كي ترفع الفأس وتقطع ذيل الأفعى. لا فائدة من ذلك. فنحن الذين نواجه تهديداً مباشراً من القوة الشيعية العسكرية والمحور الشيعي الأيديولوجي، علينا أن نكون رأس الحربة والإعتماد على أنفسنا في منطقتنا، فنمنح بذلك الحافز للولايات المتحدة وفرنسا وتركيا ونحملها على السير وراءنا. يتعيّن علينا السعي من أجل تسهيل قيام حكم رشيد في سوريا مع الحرص في الوقت نفسه على مثول مرتكبي الجرائم والتعذيب وأولئك الذين قصفوا شعبهم بالقذائف والغازات السامة، أمام العدالة في محكمة الجنايات الدولية.
لا جدوى من انتظار الولايات المتحدة كي تتحرّك. أوباما شديد التردّد، ولن يكون له مكان في التاريخ. هو ليس من طينة لينكولن أو واشنطن أو كينيدي أو ريغان أو حتى بوش الأب والابن اللذين، وعلى الرغم من أخطائهما الكثيرة، لم يكونا يتردّدان في اتخاذ القرارات الحاسمة.
على دول مجلس التعاون الخليجي أن تنتهز هذه اللحظة. عليها أن تتوقّف عن التمسّك بعباءة الولايات المتحدة، لا سيما وأن هذه الأخيرة تتصرّف وكأنها لاعبة صغيرة ومبتدئة لا تفقه شيئاً في أصول اللعب. إن كان من درسٍ نتعلّمه من أوباما، فهو بلا شك شعار حملته الانتخابية الشهير "نعم، نستطيع".