جاءت إطاحة الجيش المصري للرئيس المعزول، محمد مرسي، بهدف إنقاذ مصر من شبح الحرب الأهلية، لتنزع قناع الاعتدال عن وجه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان. ففي سبتمبر 2011، استخدم أردوغان المنبر الذي منحته إياه قناة "دريم" لحضّ الشعب المصري على تبنّي دستور علماني يقود إلى التعامل مع المصريين من جميع الأديان على قدم من المساواة، مضيفاً "العلمانية لا تعني الإلحاد". ولم تلقَ نصيحته هذه آذاناً صاغية.
فقد أصدر مرسي مراسيم رئاسية لإحكام قبضته على السلطة، وعيّن إسلاميين في مجلس الشورى، وفرض دستوراً يتجاهل حقوق الأقليات والنساء. وبدلاً من الإصغاء إلى تحذيرات الاتحاد الأوروبي ونصائح مستشاريه الذين نبّهوه إلى أن مواقفه غير الجامِعة تتسبّب بالاستقطاب في البلاد، عمد إلى تنصيب محافظين ينتمون إلى "الإخوان المسلمين" و"الجماعة الإسلامية" في تسع محافظات مصرية. وقد أطلقت الظروف المعيشية، مع اضطرار المواطنين إلى الوقوف ساعات طويلة أمام محطات الوقود والأفران والانقطاع المستمر للتيار الكهربائي، رصاصة الرحمة على مسيرته السياسية.
فقد طالب أكثر من 30 مليون مصري، أي ثلث السكّان، برحيله. النقاش حول وقائع ما جرى، وإذا كان انقلاباً عسكرياً أم تصحيحاً ديمقراطياً فرضته المطالب الشعبية، هو محض أكاديمي. المصريون هم من يقرّرون مستقبل بلادهم، وقد اتّخذت الأكثرية قرار تصويب الأخطاء التي ارتُكِبت بعد ثورة 2011. في نظرهم، الشارع هو الذي عزل مرسي بعدما قاد البلاد في نفق مظلم وخطير. حالُ مرسي أشبه بحال مدير عام في شركة متعدّدة الجنسيات خرق موجباته التعاقدية عبر وضع تلك الشركة على سكّة الإفلاس؛ فهو ليس من حقّه أن يتذمّر عندما يطالب المساهمون بفسخ العقد معه.
لكن بدلاً من احترام إرادة الشعب المصري، أظهر رئيس الوزراء التركي أردوغان عدوانية مفاجئة، وذهب إلى حد التصريح بأنه لن يعترف بالحكومة المؤقتة الجديدة في مصر معلناً بإصرار "بالنسبة إلي مرسي هو رئيس مصر لأنه منتخَب من الشعب". وفي تأكيد لموقفه هذا، رفض تلبية دعوة للقاء نائب الرئيس المصري المؤقت محمد البرادعي. وقد نقلت إحدى الصحف التركية عن أردوغان قوله "إذا لم نتعامل مع الوضع بهذه الطريقة، فهذا يعني تجاهل الشعب المصري". حقاً؟ "الإخوان المسلمون" هم الفئة الوحيدة بين المصريين التي ترفض المرحلة الانتقالية، وهذا يعني أن أردوغان يصطف إلى جانب إخوانه في العقيدة ضد الشعب المصري. طلب وزير الدولة التركي المكلف بالشؤون الأوروبية من مجلس الأمن الدولي "اتّخاذ الخطوات اللازمة" رداً على "الانقلاب". وقد اتّهم متحدّث باسم الرئيس المصري المؤقت رئيس الوزراء التركي بالتدخّل في شؤون بلاده.
تبدي الحكومة التركية اهتماماً مفرطاً بالأحداث في مصر، مع العلم بأنها تتخبّط في الداخل في مواجهة الاحتجاجات المناهضة لها والتي تعمد شرطة مكافحة الشغب إلى تفرقتها بواسطة الغاز المسيل للدموع ومدافع المياه، فضلاً عن اعتقال مئات المتظاهرين. لقد أحجم القادة العرب، بحكمة، عن التدخّل في المشاكل التركية في حين أن أردوغان يتصرّف وكأن الأمبراطورية العثمانية لا تزال في أوجها. لقد اضطُرّ أردوغان الذي تمرّ بلاده في أزمة، إلى قطع عطلته في ساحل إيجه لدعوة كبار الوزراء في حكومته إلى اجتماع طارئ لمناقشة الأحداث في مصر!! وعقب هذه الجلسة، أقام ممثّلون عن جماعة "الإخوان المسلمين" العالمية ومنظمات إسلامية أخرى سراً في أحد الفنادق على مقربة من مطار أتاتورك في اسطنبول لمناقشة التطوّرات، بحسب صحيفة "الوطن".
الرسالة واضحة جداً. يرى أردوغان في رفض مصر للإخوان المسلمين تهديداً لحزب "العدالة والتنمية" الإسلامي الذي يتزعّمه في تركيا، والذي قدّم حتى الآن نموذجاً ناجحاً للإسلام السياسي في المنطقة. يتخوّف أردوغان الذي يسكنه هاجس نظرية الدومينو، من أن يستلهم المتظاهرون المناهضون للحكومة في ساحة تقسيم ومنتزه "غيزي"، من النموذج المصري، أو أسوأ من ذلك، أن يتطلّعوا هم أيضاً إلى الجيش التركي النافذ الذي تجمعه علاقات مشحونة بحكومة أردوغان، كي يهبّ لمساعدتهم. يعمل أردوغان، على غرار صديقه مرسي، من أجل تدعيم المصالح الخاصة لحزبه، ما يجعله يفقد صوابية الحكم على الأمور. إذا نجحت الحكومة الانتقالية في مصر في فرض الاستقرار في البلاد وإرساء ديمقراطية تعدّدية، سيتحطّم حلمه بتصدير مفهوم حزب "العدالة والتنمية" للديمقراطية الإسلامية إلى مختلف أنحاء الشرق الأوسط.
من الواضح أن أردوغان لا يبالي بالمصريين، ما يطرح علامة استفهام حول التزاماته المعلنة الأخرى. فعلى سبيل المثال، ينتقد بشدّة النظام السوري الهمجي - ولا بد من الإقرار بأنه فعل الكثير من أجل اللاجئين السوريين - لكن موقفه هذا لم يُترجَم أفعالاً على الأرض. والأمر عينه ينطبق على دعمه للفلسطينيين. فقد تأزّمت العلاقات بين أنقرة وتل أبيب عقب الهجوم الذي شنّته فرقة كوماندوس إسرائيلية على أسطول المساعدات الذي قادته تركيا وحاول كسر الحصار الإسرائيلي على غزة، ما أسفر عن مقتل تسعة مواطنين أتراك. فقد اعتبر أردوغان الذي قدّم الدعم المادي لحركة "حماس"، أن الهجوم "يمكن أن يتسبّب باندلاع حرب"، وتدهورت العلاقات بين الدولتين اللتين لطالما كانتا حليفتَين مقرّبتين، وجرى سحب الدبلوماسيين من البلدَين، إلا أن الأمور اقتصرت عند هذا الحد. واليوم عادت العلاقات بين إسرائيل وتركيا حميمة كما في السابق.
في حين تعاملت إدارة أوباما والاتحاد الأوروبي بحذر في البداية مع سقوط مرسي المفاجئ، يتقبّلان الآن الأمر الواقع شرط أن تشقّ البلاد مسارها سريعاً نحو الأمام عبر إقرار دستور جديد تتبعه انتخابات تشريعية ورئاسية. أما أردوغان فيحشر نفسه أكثر فأكثر في مأزق، وإذا لم يتخلّص من البارانويا التي يعاني منها ويقبل يد الصداقة التي تمدّها إليه القيادة المصرية الجديدة، يبدو مستقبل العلاقات التركية-المصرية قاتماً.
على مستوى شخصي، أرحّب بشدّة بالتغييرات الجارية في مصر. لم يكتفِ "الإخوان المسلمون" بوصول رجل منهم إلى قصر الاتحادية، بل بدأوا ينشرون أفكارهم السامّة في مختلف أنحاء دول الخليج. لا نريد متعصّبين فارغي النظرات يتسبّبون بالمتاعب في بلداننا، ولا يريدهم أيضاً إخواننا وأخواتنا المصريون الذين يتطلّعون إلى فجر جديد ومشرق. وأنا أتمنّى للشعب المصري كل التوفيق في مسعاه.