كيف لنا أن نصدّق أن مجرماً حاقداً متوسّط العمر يمضي فترة إطلاق سراح مشروط ويحمل أسماء مستعارة غريبة مثل "سام باسيل" و"نيقولا باسيلي نيقولا" وشريكه مخرج الأفلام الإباحية آلان روبرتس البالغ من العمر 65 عاماً (والملقّب بروبرت برونيل) يوظّفان الوقت والمال على إنتاج الفيلم التافه "براءة المسلمين" الذي يسخر من النبي (صلى الله عليه وسلم) ما لم تكن لديهما مصلحة ما في الأمر؟ هذان الرجلان العديما الأخلاق ليسا صليبيَّين من الزمن الحديث، وانطلاقاً مما قرأت عنهما، يبدو لي أن المال هو معبودهما الأوّل.
لا علاقة للفيلم الرديء الذي تبلغ مدّته 14 دقيقة، بالتاريخ أو الفن أو الثقافة لا من قريب ولا من بعيد، و لم يكن الهدف أبداً تحقيق نجاح تجاري في دور السينما. الهدف منه هو التحريض وتأجيج المشاعر. أعتقد أن الرجلَين هما مجرّد أداتين جشعتَين في أيدي أشخاص فاحشي الثراء يعملون في الظل ويملكون أجندة خفيّة هدفها زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، وبالتالي تحويل الأنظار عن الفظائع التي تُرتكَب يومياً في سوريا. إذا صحّت شكوكي، ربما نجحت الخطة التي وضعتها الجهات التي تقف خلف نيقولا وروبرتس، أياً كانت. لم يكن المخطّط ينطوي على أي تعقيدات، وكانت نتيجته التي تستند إلى مبدأ الفعل والرد، مدبَّرة مسبقاً. كانت المسألة تقتصر على اللعب على وتر مشاعر المسلمين في نص الفيلم قبل عرضه على الإنترنت وانتظار الضجّة المحتومة. وكما كان متوقّعاً، فإن المجتمعات الإسلامية والعربية التي تنقاد بسهولة، لا تقصّر أبداً عن التهام الطعم الذي يضعه لها أعداؤها، فتشوِّه بذلك سمعة دولها وديانتها.
الهجمات على النبي (صلى الله عليه وسلم) أو القرآن الكريم تجرح مشاعر المسلمين المتجذِّرة عميقاً في النفوس، وتؤدّي في أغلب الأحيان إلى احتجاجات عنيفة تسفر عن مقتل أبرياء أو إصابتهم بجروح. هذا النوع من الانتقام يتعذّر تبريره والدفاع عنه، فهو لا يستهدف أشخاصاً لا علاقة لهم بإهانة #الإسلام وحسب، بل يعطي أيضاً انطباعاً بأن ديانتنا هشّة. رسالة #الإسلام راسخة وتزداد نمواً؛ فمسلمو العالم البالغ عددهم 2.1 مليارَي نسمة يستمدّون قوّتهم من #الإسلام. كلمة الله تعالى تحمي المؤمنين، وليس العكس.
أدين الهجمات المشينة على البعثات الدبلوماسية الأمريكية والبريطانية والألمانية في مصر وليبيا وتونس واليمن وأماكن أخرى، والتي يبدو أنها مدبَّرة سياسياً وتستخدم الفيلم كذريعة. وهذا هو أيضاً رأي محمد المقريف، رئيس المؤتمر الوطني العام في ليبيا. ففي مقابلة عبر قناة "سي بي إس نيوز"، قال إن حكومته تعتقد أن الهجوم الذي أدّى إلى مصرع السفير الأمريكي وثلاثة أمريكيين آخرين لم يأتِ نتيجة غضب عابر، بل هو مخطّط له منذ وقت طويل بتواطؤ خارجي.
إذاً من هي الجهات التي تقف خلف هذه الاضطرابات التي تعيث خراباً في العالم الإسلامي والعربي؟ لا يمكن الجزم في غياب الحقائق الثابتة. لكن لنلقِ نظرة على الخاسرين والرابحين.
لا شك في أن العلاقات الأمريكية مع الأقطار ذات الغالبية السنّية في مرحلة ما بعد "الربيع العربي" قد تضرّرت. فالرئيس أوباما الذي دعم إطاحة القادة الديكتاتوريين في مصر وتونس وليبيا واليمن بدرجات متفاوتة، سيشعر على الأرجح أن سياساته المؤيّدة للديمقراطية في المنطقة لم تكن حكيمة نظراً إلى هذا الجحود الواضح من بعض شرائح الشعوب المحرَّرة حديثاً. بطبيعة الحال الأمريكيون غاضبون من مقتل دبلوماسييهم، ويتعرّض الرئيس الأمريكي للانتقادات الشديدة من الجمهوريين الانتهازيين الذين يقولون عنه إنه يعتمد "الليونة"، وفي هذا الإطار، علّق خصمه ميت رومني الذي ينافسه على الرئاسة: "من المخزي أن ردّ إدارة أوباما الأول لم يكن إدانة الهجمات على بعثاتنا الدبلوماسية بل التعاطف مع منفّذيها".
بعد هذا الكلام، تبنّى أوباما موقفاً أكثر تشدّداً متعهّداً بمحاكمة القتلة، ونشر عناصراً تابعين لقوات المارينز والقوات الخاصة وسفناً حربية في المنطقة. من المؤكّد أن الأجواء لم تعد مؤاتية للقيام بتدخّل عسكري بقيادة الولايات المتحدة في سوريا. لن يقبل الأمريكيون أبداً بالتضحية بخيرة شبابهم، وما يعتبرونه تبديداً لأموال دافعي الضرائب، لإنقاذ السوريين بعدما شهدوا على العداء للولايات المتحدة في ليبيا وتونس ومصر التي ساندوا شعوبها عندما كانوا يتجمّعون في الساحات والميادين. وفي هذه الحالة، الرابحون هم بشار الأسد وحليفته الشيعية إيران وجميع حلفائهما في لبنان والعراق الذين يسعون جاهدين إلى الحفاظ على ما يُعرَف بـ"الهلال الشيعي" وتوسيعه عبر الإبقاء على الحكّام العلويين السوريين في مناصبهم.
وربما يشارك في المؤامرة محافظون جدد موالون لإسرائيل أو حتى أعضاء في الكونغرس الأمريكي. قد يكون الأسد عدواً لدوداً لإسرائيل، لكن من وجهة نظر تل أبيب، شرّ تعرفه أفضل من خير تجهله. وعلى الرغم من خطاب الأسد العلني، يتصرّف منذ سنوات مثل حارس يحمي حدود إسرائيل مع لبنان وسوريا.
فضلاً عن ذلك، يفكر البعض أن شدّ الحبال الحالي بين إيران والغرب في موضوع البرنامج النووي الإيراني يمهّد لصفقة كبرى محتملة تتخلّى طهران بموجبها عن برنامجها لتخصيب اليورانيوم في مقابل دور إقليمي مسيطر.
إذا جرى التوصّل إلى مثل هذه التسوية بما يُعيدنا بالذاكرة إلى ما كان قائماً بين واشنطن والشاه، فسوف تكون في مصلحة الولايات المتحدة، كونها ستتمكّن عندئذٍ من تقاسم النفوذ مع المرشد الشيعي آية الله علي خامنئي والدمى العربية التي تدور في فلكه، بدلاً من أن تُضطرّ إلى التعامل مع العديد من القيادات السنّية التي تتّخذ من القرآن الكريم مرجعاً لها. من شأن ذلك أن يضع دول مجلس التعاون الخليجي في وضع هشّ ودقيق، وفي أسوأ السيناريوهات، يمكن أن تسيطر إيران على أجزاء من الخليج تطالب زوراً بضمّها إليها، مثل البحرين. لقد برز إلى العلن كلامٌ عن خطّة غربية سرّية لإضعاف مجلس التعاون الخليجي أو حتى تفكيكه من أجل التحكّم بسهولة أكبر بهذه المنطقة الغنيّة بالنفط.
في الختام، نستهجن بشدّة رد الفعل العنيف على الفيلم المسيء، لكن من هو مطّلع، ولو قليلاً، على التاريخ الحديث يدرك أنه لا يمكن الوثوق بالولايات المتحدة وحلفائها. لقد عمل القادة العرب، ولا سيما العاهل السعودي عبدالله بن عبد العزيز، وأمير قطر الشيخ حمد بن خليفة، جاهدين لتعزيز التفاهم بين الأديان والثقافات، لكن نظرائهم من الغرب قد فشلوا في الرد بالمثل.
خلاصة القول، لا يجب النظر إلى ظاهر الأمور، ولا حتى في تعاطينا مع فيلم يبثّ السموم عبر "#يوتيوب". في نهاية المطاف، لا يمكننا نحن مواطني الخليج العربي سوى الاعتماد على أنفسنا لحماية أرضنا وأهلنا. يجب أن نعمل على محاكاة النموذج التركي، هذا البلد القوي عسكرياً والمستقلّ عن التدخّلات الخارجية. مجدّداً أناشد قادة دول مجلس التعاون الخليجي التعامل بجدّية مع التهديدات المحتملة لشواطئنا وأبوابنا، والتحرّك للتصدّي لها قبل فوات الأوان.