وجد الرئيس الفلسطيني محمود عباس نفسه لقمة سائغة بين أيدي الذئاب. ومهما كان مخلصاً في مساعيه لإرساء قواعد الدولة الفلسطينية فإن كل أوراق اللعبة هي بأيدي الإسرائيليين وحلفائهم الأمريكيين. وهو في ذلك أشبه برجل يفاوض مصرفاً للحصول #على قرض دون أن يكون لديه دخل ثابت أو أي أصول يقدمها ضماناً للقرض #على أمل أن يوافق البنك #على القرض من قبيل العمل الخيري. غير أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يعرف عمل الخير لا من قريب ولا من بعيد. بل هو بقي يرفض فكرة حل الدولتين حتى نجحت ضغوط الرئيس الأمريكي باراك أوباما في إجباره #على قبول الفكرة قولاً لا فعلاً.
إن أردنا الصراحة ودون أي تحفظ، فلا مناص من القول إن الرئيس الفلسطيني الذي عانى الأمرين تحت الاحتلال طوال ستة عقود ليست لديه سوى القليل من الأوراق ليفاوض بها. لقد عبر الرئيس جمال عبد الناصر عن هذا الموضوع حين قال "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة."
من ناحية المبدأ، هناك جانب من الصواب في تلك المقولة. وعلى سبيل المثال، لو لم تحقق مصر نصراً في حرب 1973 لما تمكنت من استعادة شبه جزيرة سيناء التي استولت عليها #إسرائيل في حرب 1967. وحين تفاوض الرئيس أنور السادات #على إبرام معاهدة #سلام 1979 كان يجلس أمام أعدائه نداً لند مسلحاً بانتصارات بلاده العسكرية #على الأرض.
لكن ليس لدى الفلسطينيين مثل هذه الميزة التفاوضية. المقاومون الفلسطينيون يقاتلون المحتل بشجاعة منذ 1948. وحتى الآن ضحى الفلسطينيون بالكثير من دماء أبنائهم خلال الانتفاضتين الأولى والثانية، غير أن بنادق الكلاشنكوف والصواريخ التي يصنعونها في ورش الحدادة ليست أبداً مثيلا للدبابات والطائرات دون طيار ومقاتلات إف 16 ومروحيات أباتشي الهجومية والصواريخ والقنابل العنقودية وقنابل الفوسفور الأبيض.
ليس هذا فحسب، بل #على الرغم من أن مقاومة الاحتلال والدفاع عن النفس هما حق لكل شعب رازح تحت الاحتلال، يوصف الفلسطينيون حين يستخدمون العنف بأنهم "إرهابيون" نتيجة الانحياز الأعمى للغرب إلى جانب #إسرائيل. آلاف من هؤلاء الفلسطينيين الذين يوصفون بالإرهابيين ليسوا سوى أطفال أسري في سجون #إسرائيل لأنهم تجرأوا ورموا حجراً #على جنودها.
في حين أن مفاوضات السلام الراهنة تصل مرحلة المراوحة في مكانها، نرى أن الرئيس عباس تعهد للإسرائيليين بأنه لن يلجأ الفلسطينيون للعنف في حال انهيار المحادثات وهو ما لا بد وأنه وقع برداً وسلاماً #على آذان نتنياهو. فقد قال عباس: "لقد جربنا الانتفاضة لكنها ألحقت بنا ضرراً كبيراً." لا شك ان هذا الكلام يتسم بالانهزامية، لكنه في هذه الحالة صحيح. إذ حتى الأسود الضواري لن تكون لها اليد الأعلى حين تواجه بنادق الصيادين.
لذا، في هذه الحالة، إن كان الزعيم الفلسطيني يقر علناً بعبثية المقاومة المسلحة ولا يمتلك في المقابل أي أوراق تفاوضية يرمي بها #على الطاولة فما الذي لديه ليساوم عليه؟
ليس الكثير. الرئيس الفلسطيني ليس مخولاً بالحديث نيابة عن كل الفلسطينيين. بل إن ولايته الرئاسية قد انقضت منذ أكثر من عام. ولهذا فإن أي اتفاقية #سلام يوقعها لن تساوي في قيمتها الورق الذي كتبت عليه. إذ في أي لحظة تستطيع حركة حماس أو الجهاد الإسلامي أو غيرها من منظمات المقاومة أن تطلق الصواريخ #على التجمعات الإسرائيلية في صحراء النقب لتصبح حينها أي اتفاقية #سلام لاغية مباشرة.
خلال الأسابيع الماضية توضح أمر معين بشكل لا مراء فيه وهو أن الاندفاعة الحالية تجاه السلام ينظر إليها من قبل الحكومة الإسرائيلية #على أنها ليست أكثر من محاولة لتضييع الوقت هدفها إرضاء المجتمع الدولي ليس أكثر.
ويؤكد رفض نتنياهو حتى الآن تمديد تجميد بناء المستوطنات الغياب الكامل لحسن النوايا من جانب #إسرائيل مثلما يؤكد ذلك أيضاً إصراره #على أن يعترف عباس بإسرائيل دولة يهودية. ويعرف رئيس الوزراء الإسرائيلي تمام المعرفة أنه مهما كانت المخاطر فلا يمكن لعباس أن يقبل أي شرط مسبق دون أن يكون ذلك #على حساب المساس بحقوق اللاجئين في العودة وإستمرار حق #العرب ممن يحملون الجنسية الإسرائيلية للإستمرار في حق المواطنة.
وعباس ليس أحمقا ليغيب عن ذهنه أن تقديم اى تنازل بخصوص هاتين القضيتين الجوهريتين يعني أنه سيصبح خائناً في عيون شعبه. يحزنني أن أرى الرئيس الفلسطيني وهو يصافح نتنياهو أمام كاميرات الصحفيين وكأنهما صديقين حميمين التقيا بعد طول فراق. عباس منفتح بالفعل أمام التوصل لحل وسط، غير أن الزعيم الإسرائيلي المخادع هو ممثل متمرس لديه أجندته الخاصة. وهو يفعل كل ما بوسعه لعرقلة أي تقدم.
وبعد أن واصل المستوطنون الإسرائيليون وضع أساسات مستوطنات جديدة في الضفة الغربية المحتلة وأخذ وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان يروج لفكرة تبادل الأراضي التي تسكنها غالبية من #العرب داخل #إسرائيل ضمن خطة أوسع لتبادل الأراضي، قرر الرئيس عباس تعليق المفاوضات إلى ما بعد لقاءاته التي سيجريها بالزعماء #العرب. ربما يكون ليبرمان متمرداً منفلت اللسان، غير أن نتنياهو لم يصرح بأي شيء يشير إلى أنه غير موافق #على تلك الخطة البغيضة.
ويتوقع أن يجتمع عباس قريباً مع زعماء الدول العربية للتشاور معهم خلال اجتماع القمة العربية المقبلة. لكن يمكنني منذ الآن تخيل ما سيحدث: الكثير من المصافحات والعناق، الكثير من النقاشات المحتدمة والإدانات لإسرائيل، وبيان ختامي مشترك جميل ومنمق يضاف إلى المئات من البيانات التي سبقته. ولكن هذا كله ليس مجدياً بما يكفي.
إن احتلال #إسرائيل للأرض الفلسطينية ومعها #على وجه الخصوص مدينة القدس، أولي القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ليس قضية الفلسطينيين وحدهم. الفلسطينيون هم إخواننا وأخواتنا. ألا تكفينا كل تلك العقود من التجاهل والتنكر لهم حتى الآن؟ أي أمة نحن إن وقفنا غير مكترثين ودون أن نفعل شيئاً ونحن نرى أخوتنا وأبناء عمومتنا يتعرضون لذلك الكم من المهانة والتجويع والتهجير والأسر والقتل والقصف!
في الحالات المثالية من المفترض أن أطراف كل نزاع هم المعنيون بتسويته، ولكن حين يفشل هؤلاء الأطراف في التوصل لتسوية خلافاتهم مراراً وتكراراً، يتعين عليهم اعتماد منهج مختلف. والرئيس عباس ليس قادراً #على التوصل لحل لوحده عبر المفاوضات، ولهذا يتعين عليه التوقف عن #التفاوض وأن يحيل الأمر لتتولاه لجنة مكونة، #على سبيل المثال، من مصر والسعودية وسوريا وتركيا.
كما يتعين #على الرئيس عباس إذا ما حصل #على موافقة الغالبية من أبناء شعبه عبر استفتاء عام أن يصدر تفويضاً أو "وكالة" لهذه الدول مجتمعة لتفاوض #إسرائيل بالنيابة عنه. وينبغي #على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إخلاء الساحة لغيرهم أيضاً لأنه لم يعد بمقدورهم الزعم بأنه وسطاء نزيهون بعد الآن. إنهم يكتفون بإغراء #إسرائيل بالكثير من الجزر الذي يرسلونه لها دون أي عصي معه.
#على الزعماء #العرب التحرك وأن يكون لهم دور #على الطاولة قبل أن يفلح نتنياهو والمستوطنون من ورائه في تحطيمها. وهم قد بدأوا بالفعل في إلقاء اللوم #على عباس لفشل المفاوضات ولا أشك في أنهم يضحكون عليه فيما بينهم. لقد سمحنا لهذه الخدعة الكبيرة أن تمضي إلى أكثر بكثير مما كان يجب لها. وإني أناشد كل الملوك والرؤساء ورؤساء الحكومات والأمراء والشيوخ #العرب ألا يسمحوا لهم بأن ينفذوا ما يريدون! أناشدهم ألا يكتفوا فقط بمجرد السماع للرئيس عباس. أناشدهم أن يقرروا ولو مرة واحدة فعل شيء لمساعدته!