فيما يواصل #الاقتصاد العالمي كسب المزيد من الزخم في مسيرته المضنية للخروج من أزمته، يطل علينا "الخبراء" ليتنطحوا لمهمة وحيدة في حياتهم وهي تثبيط همة الركب في المقدمة. ويبدو لي أن أمثال هؤلاء المسؤولين والمحللين وغيرهم ممن زعموا لأنفسهم أن يكونوا أساطين #الاقتصاد ليست لديهم أدنى فككرة عن أن أسواق واقتصادات العالم تقوم إلى حد كبير #على الحالة المعنوية السائدة. وهؤلاء لا يكترثون بأن أقوالهم المشؤومة يمكن أن تهوي بمعنويات المستثمرين والمقرضين والمستهلكين إلى الحضيض لتتحول من تلقاء نفسها إلى نبوءات محتومة الحدوث. كم اتمنى لو أمثال هؤلاء يجمعون ويرسلون لستة أشهر إلى منفى منعزل #على جزيرة صحراوية، حينها سيجد الإقتصاد العالمي المسار الصحيح الذي يجب أن يتبعه.
الحقيقة هي أن أصحاب #الألسنة المنفلتة يتحملون جانباً من المسؤولية عن الأزمة. حين ثارت أخبار المصاعب التي يتعرض لها عملاقا القروض العقارية في الولايات المتحدة، فاني ماي وفريدي ماك، توقع محللون أن تتعطل أمريكا لجيل كامل. ولا غرابة أن شاشات التداول حينها انقلبت كلها إلى الأحمر وأصبحت مصارف عفية بحاجة لخطط إنقاذ حكومية لأن عملاءها هرعوا لسحب ودائعهم.
الحقيقة هي أن الاقتصادات، وإلى حد لا يستهان به، لها أعمارها ودوراتها الحياتية. وليس هناك من برنامج كومبيوتري بمقدوره أن يتنبأ بما هو آت. بل إن الأخطبوط بول، لو أعطي الفرصة، لأعطى توقعات أصدق بكثير من غالبية المحللين. ليس هناك من عبقريات مالية تملك بلورات زجاجية تكشف المستقبل. ولو كان هناك مثل هذا الشخص لاستطاع أن يحذر العالم من الكارثة المالية قبل أن تقع.
وباعتبار أن ليس هناك من بمقدوره أن يتحدث عن المستقبل بثقة تامة، فإن من الأفضل لهؤلاء أن يكفوا عن العبث وإثارة الاضطراب في حياة الناس بذلك السيل الذي لا يتوقف من التوقعات المخيفة. خذ أي صحيفة يومية وتجد أنها تعج بتحاليل من مثل "سوق العقارات اليوم ..." و"غداً تظهر احصائيات تجارة التجزئة..." و"يتوقع في العام المقبل أن معدلات البطالة..." كل عنوان كئيب من مثل هذه له أثره النفسي المخرب #على النمو العالمي كما أنه يثبط همة المستهلكين ويمنعهم من الإتفاق وبالتالي المساهمة بدورهم في تحريك عجلة #الاقتصاد عبر الانفاق.
أضف لذلك أن هؤلاء الأساطين أنفسهم لا يتفقون #على رأي فيما بينهم. إذ تجد أن هناك مدرسة اقتصادية تشجع #على التقشف وتخفيض حجم الإنفاق في الميزانيات فيما تؤكد أخرى #على أن الحكومات مطالبة بإنفاق المزيد لتحفيز الاقتصادات. وإن كان هذان الرأيان طريقان مختلفان يقودان إلى الوجهة ذاتها فعلاً فما زلنا بانتظار معرفة أي منهما ستختاره الحكومات بانتظار أن ينتهي الطرفان من المهاترات المتبادلة.
بريطانيا #على سبيل المثال مقبلة #على مرحلة شديدة الوطئة من شد الأحزمة، وهو إجراء أرى شخصياً أنه مبرر. ولكن ما إن بدأت بوادر الثقة في استراتيجيات التحالف الحكومي الجديد تظهر خرج علينا محافظ مصرف إنكلترا المركزي مارفين كنغ ليحذرنا من "انتعاش متقطع" ليرسل بسعر الإسترليني نحو هبوط سريع. ما الذي دفع بالمصرف المركزي ليعبر عن هذه المخاوف؟ ما هو الغرض منها غير ترهيب المستثمرين؟ ما أنا متأكد منه هو أن هذه المخاوف كان يجب أن يسرّ بها إلى وزير المالية جورج أوزبرن ولا أحد غيره.
القصة نفسها نراها في الولايات المتحدة التي يرغب رئيسها باراك أوباما في أن يحفز #الاقتصاد. إذ لا يكتفي خصومه السياسيين باتهام حكومته بالإفراط في الإنفاق بل إن رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي بن بيرنانكي وصف حال #الاقتصاد قبل أيام بأنها ضبابية #على نحو غير معتاد. بل حتى الرئيس السابق للاحتياطي الاتحادي ألان غرينسبان أطل برأسه ليحذر من أن #الاقتصاد الأمريكي ربما يتوجه نحو كساد جديد وأنا الذي كنت أعتقد أنه قد تقاعد!
أؤكد لكم أني لست من أنصار نظريات المؤامرة غير أني لا أستطيع أن أمنع نفسي من التساؤل عما إذا كانت "الأخبار السيئة" مناورة متعمدة من جانب المصارف وقادة كبرى الشركات ضد المساهمين الكبار الذين يملكون حقوق التصويت في شركاتهم لدفعهم إلى تسييل هذه الأسهم. ثم تباع هذه الأسهم بعدها لآلاف من المستثمرين الصغار الذين لن تكون لهم القوة التصويتية لتغيير سياسات الشركات.
في الوقت الراهن تم تهميش المساهمين عبر أرباح نقدية أصبحت صغيرة إلى حد جعلها لا معنى لها. في المقابل، فإن مدراء المصارف والشركات يحصلون #على حوافز هائلة نقداً أو أسهماً. بل لا أجد حرجاً في القول إن المساهمين في كثير من الأحوال تحولوا إلى ما يشبه الرقيق تحت رحمة مدراء جشعين يقودون شركاتهم.
من لديهم القدرة #على الاستثمار هم بحاجة ماسة الآن لمن يريحهم من آراء من يسمون أنفسهم خبراء بقدر ما هم بحاجة للراحة من أوضاع السوق المتقلبة والمتناقضة التي نشهدها كل يوم. كما أن قادة الدول الأغنى في العالم مطالبون بالتركيز #على عملهم الذين أختيروا للقيام به بدلاً من طواف العالم لحضور قمم مجموعة الثمانية ومجموعة العشرة ومجموعة العشرين التي لا تقدم شيئاً سوى تسليط الأضواء الخلافات بين الدول الأعضاء فيها وهو ما يدفع الأسواق بدوره نحو مزيد من الاضطراب.
وللأسف فإن الإعلام يقوم بما يجيده. القنوات التلفزيونية والصحف تحفل بتجارة الخوف. دائماً الأخبار السيئة التي تأخذ الصدارة. ومع ذلك فإن هناك أخباراً طيبة لو تم الانتباه لها في كل هذه الجلبة. فقد نشرت إيكونوميست #على سبيل المثال مؤخراً مقالة بعنوان "في مواجهة الجاذبية الأرضية والتاريخ" جاء فيها أنه "#على الرغم من التوقعات القوية بتكرار ما شهده العالم في ثلاثينيات القرن العشرين، فإن حركة التجارة عادت تسير نحو التحسن." وتقول المقالة في ذلك إن "بحلول مايو من هذا العام، كانت الاقتصادات الناشئة في مجموعة العشرين تستورد وتصدر ما يزيد بنسبة 10% عن أعلى معلات تجاراتها التي سبقت الأزمة." وتكشف مقالة أخرى في إيكونوميست بتاريخ 7 أغسطس أن أرباح الشركات الأمريكية "عادت للارتفاعلتقترب من أعلى المعدلات التاريخية التي حققتها قبل الأزمة أواخر 2008."
إن الكلام غير المسؤول في زمن الانتعاش الذي نعيشه اليوم ليس كلاماً رخيصاً فحسب بل ومدمر أيضاً. إذ أن الناس العاديين وهم عماد كل اقتصاد في كل مكان يحتاجون للتشجيع والتطمين. إنهم يحتاجون الثقة بالاقتصاد ليقبلوا #على شراء بيوت وسيارات وأجهزة منزلية جديدة. والمستثمرون الراغبون في الاستثمار يحتاجون أسواقاً مستقرة قبل الاستعداد للمجازفة برساميلهم. كما يتعين #على المصارف أن تتوقف عن حبس أموالها في خزائنها وأن تبدأ في توفير التمويل لإيجاد أعمال وفرص عمل جديدة.
هناك ضوء قوي في نهاية هذا النفق. غير أن المزعج هو أن الناس كلما لمحت بارقة أمل تجد الأساطين والجهابذة يبذلون كل ما في وسعهم لوأدها.