في القرية العالمية التي نعيش فيها الآن، لم يعد السفر ينطوي #على مفاجآت كما كان قبل عشرين عاماً. هناك تشابه متوقَّع جداً بين عواصم كثيرة من ناحية سلاسل الفنادق والمراكز التجارية والمطاعم والتفاعل الاجتماعي إلى درجة أنّ المسافرين معذورون إذا استيقظوا وتساءلوا لبرهة، ترى أين نحن موجودون. وبما أنّني أسافر كثيراً بداعي العمل، تهيّأ لي أنّني رأيت كل شيء. لكنّني كنت مخطئاً.
عندما قبلت دعوة رسمية لزيارة جمهورية #تترستان الغنيّة بالنفط والغاز، لم تكن لديّ توقّعات مسبقة ما عدا أنّ عاصمتها قازان تقع #على #ضفاف #نهر يصبّ في #نهر #الفولغا العظيم وتُعتبَر العاصمة الشرقية لروسيا. وقد توقّعت، بالاستناد إلى تجربتي في زياراتي إلى بلدان أخرى، أن يستقبلني وزراء بكل لباقة قبل اصطحابي في جولة في المدينة والجلوس لتناول العشاء فيما يتبادل الجميع من حولي أحاديث لا تخرج عن طابع المجاملات.
لكنّ الوضع كان مختلفاً تماماً، فكلّ من قابلتهم عاملوني وكأنّني قريب لهم يلتقونه بعد فراق طويل. كانت ابتساماتهم صادقة، وقلوبهم منفتحة، وشعرت بأنّني في دياري منذ هبطت طائرتي في أرض المطار واستقبلني ممثّل عن الحكومة.
عندما يلتقي شخصان لأوّل مرّة، إما تنشأ كيمياء بينهما وإما لا. من النادر أن يحصل انسجام بين الأشخاص من اللحظة الأولى، لكن الجميع من الرئيس إلى الرجال والنساء العاديين في الشارع أظهروا دفئاً شديداً في التعاطي إلى درجة أنّه لم يسعني سوى أن أشعر بالودّ حيالهم منذ البداية. اقترح عليّ مدير الشؤون الخارجية في المكتب الرئاسي القيام بجولة سيراً #على الأقدام. وفيما كنّا نمشي في شوارع المدينة، كان المارّة يبتسمون أو يلوّحون بأيديهم أو يتوقّفون لإلقاء التحيّة علينا.
انتعشت كثيراً لوجودي وسط أشخاص لا يضعون أقنعة اجتماعية للتواصل مع الآخرين. يتمتّعون بحسن ضيافة لا مثيل له في عالم اليوم، ويذكّرني بما كنّا عليه نحن العرب قبل أن نركب القطار السريع. شعرت وكأنّني أعرفهم منذ زمن بعيد. وشعرت باسترخاء شديد وكأنّني وسط إخواني وأخواتي.
رئيس #تترستان رستم مينيخانوف، 53 عاماً، وهو اقتصادي وخبير في السلع الأساسية، رجل رائع يتميّز بالذكاء والديناميكية وحسن الضيافة. عندما يستريح من شؤون الدولة، يقود مروحيّته الخاصة أو يمارس الرياضة. فهو يشارك بانتظام في بطولة الأمم الأوروبية لسائقي الـ"رالي كروس" التي ينظّمها الاتحاد الدولي للسيارات، وفي عام 2006 حلّ في المرتبة الأولى عن "فئة الشاحنات" في سباق "تحدّي الصحراء" الذي تنظّمه الإمارات العربية المتحدة، حيث قاد شاحنته من طراز "كاماز" المصنوعة في بلاده.
استقبلني الرئيس مينيخانوف أحسن استقبال. التقيته في قاعة مؤتمرات في الطابق الأرضي من قصره حيث تبادلنا حديثاً ودّياً وغير رسمي استمرّ أربعين دقيقة، ثم أراني مكتبه في الطابق العلوي، وتفضّل لاحقاً بمرافقتي إلى خارج مقرّه.
وكان واضحاً أنّه يهتمّ برفاه شعبه ويرصد أمنهم وراحتهم عن كثب. إنّه يؤدّي مهمّته #على أكمل وجه بلا شك، لأنّ بلده يُصنَّف في شكل عام في خانة القصص الناجحة. فمعدّل البطالة في صفوف المواطنين الموحَّدين برغم تعدّد أصولهم وأديانهم هو 1.5 في المئة فقط، وينعم أبناء #تترستان برخاء غير مسبوق بفضل صناعات النفط والمواد الكيميائية والهندسة والطيران والسيارات والأنسجة المزدهرة.
وقد شدّد الرئيس مينيخانوف #على أنّ #تترستان هي بلد آمن يرحّب بكل الزوّار ويُشعرهم بالآمان. بالفعل، تتّجه الأنظار أكثر فأكثر إلى العاصمة قازان الرابضة وسط غابات مورقة وحقول خضراء، كوجهة واعدة في روسيا بعدما نجحت في محاولاتها لاستضافة الألعاب الأولمبية للشباب سنة 2013 وقمة "رابطة الدولة المستقلّة". وتملك لأوّل مرة هذه السنة منصّة عرض مستقلّة في سوق السفر الدولية في لندن. وبإمكان الزوّار أن يمتّعوا نظرهم بالعديد من المعالم ويختبروا أموراً كثيرة في هذه المدينة التي تُعتبَر المركز التربوي والثقافي في روسيا.
لقد سحرتني قازان. لم أرَ مثيلاً لها. لفتني أوّلاً حجم التنظيم والنظافة في المدينة؛ لم أرَ ورقة واحدة #على الأرض في جادّاتها الواسعة وساحاتها وحدائقها الفسيحة.
#على الصعيد المعماري، المدينة هي مزيج من العظمة الأوروبية القديمة ومن التفسير الهوليوودي لقصص "ألف ليلة وليلة"، من الأسلوبَين الاوروبي القديم والمعاصر. وهي بالتأكيد ليست كالحة أو متقشّفة مثل أجزاء من موسكو. فالمآذن والقبب والأبراج تطغى #على المشهد العام للمدينة، ناهيك عن الكرملين التاريخي الذي أدرجته منظّمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) #على لائحة التراث العالمي عام 2000.
تضمّ المدينة 44 معهداً للتعليم العالي، ومتاحف ومكتبات وقاعات للحفلات الموسيقية ومسارح، بما في ذلك دار للأوبرا والباليه الذي ينظّم مهرجاناً سنوياً للباليه الكلاسيكي تحيّةً للراقص التتري المعروف، رودولف نورييف. ويشتهر هذا المركز الصناعي والمالي المهم أيضاً بأنّه قلب روسيا الثقافي وعاصمتها الرياضية.
وكان تناول الوجبات في المطاعم تجربة حقيقية. خلال إقامتي هناك، تلقّيت دعوات إلى مآدب غداء وعشاء في بعض المطاعم العريقة. شعرت وكأنّني ممثّل في فيلم من أربعينيات أو خمسينيات القرن العشرين. لوائح الطعام غنيّة جداً، والأجواء المحيطة فخمة إلى درجة أنّ الجالسين إلى المائدة يخالون أنفسهم في أحد بلاطات القياصرة.
كانت المحطّة الأبرز في رحلتي زيارة مسجد جميل نُقِشَت #على جدرانه أسماء كل الأنبياء. وقد رافقني المفتي والإمام اللذان أظهرا طلاقة في التكلّم باللغة العربية، في جولة #على المسجد، وكانت مفاجأة سارّة لي عندما اطّلعت #على الطريقة المبتكَرة التي يُعلِّمون بها الأولاد أركان الإسلام الخمسة.
ففي صالة ملحَقة بالمسجد يتعلّم الأولاد القصص الواردة في القرآن عبر الاستعانة بصور وأغراض وملابس تنكّرية كي يتمكّنوا من ربطها بسهولة بالتعاليم القديمة. تضم قازان 45 مسجداً ذات أساليب معمارية متعدّدة بينها مسجد كول شريف الذي يقع #على مقربة من كاتدرائية البشارة الرائعة للروم الأرثوذكس.
في هذا الشرق الأوسط المضطرب والمنقسم حول أصول وأعراق وديانات، يمكننا أن نستخلص عبراً مهمّة من #تترستان التي يتألّف سكّانها، وعددهم 3.7 ملايين نسمة، من تتر وروس وأوكرانيين وآذريين وأرمن وأوزبكيين وطاجكيين وكازاخيين وجورجيين ويهود وغجر وسواهم من الأعراق. يقدّم البلد مثلاً رائعاً عن التسامح العرقي والديني حيث يعيش الجميع معاً بانسجام تام.
قال لي الرئيس مينيخانوف إنّ شعبه مندمج وموحَّد جداً إلى درجة أنّ الطريقة الوحيدة للتمييز بين أتباع الديانات المختلفة هي عندما يذهبون للصلاة: "كلّنا إخوة وأخوات". لو كنّا نعرف في العالم العربي كيف نحتفي بوحدتنا بدلاً من الإمعان في تعميق خلافاتنا، لأصبحت هذه المنطقة مكاناً أفضل بكثير يعمّه السلام والوئام.