فيما كنت أحتفل بعيد الأضحى مع مليار مسلم في العالم في منتصف الشهر الفائت، تلقّيت عدداً كبيراً من رسائل التهنئة بالعيد من أصدقائي في مختلف أنحاء العالم. لكن واحدة من هذه الرسائل تميّزت عن سواها. فقد كتب أندرو فيندلي، حفيد عضو الكونغرس الأمريكي السابق، الموقّر بول فيندلي، ما يأتي في رسالة بالبريد الإلكتروني:
"أتمنّى لكم ولعائلتكم تمضية عيد سعيد هذه السنة. إنّ استعداد سيدنا ابراهيم للتضحية بابنه هو في نظري من أقوى تجلّيات الإيمان في الكتاب المقدّس. من وجهة نظرنا أنا وزوجتي غرايس أن عيد الأضحى هو محطة أساس يمكن أن تتشاطرها الديانتان الإسلامية والمسيحية احتفاءً بالإيمان بالله عز وجل وأهمّية عمل الخير لإخوتنا في البشرية. ليت المسيحيين أجمعين يحتفلون بعيد الأضحى كما يحتفل به المسلمون في مختلف أنحاء العالم!"
تأثّرت كثيراً برسالة أندرو فيندلي النابعة من القلب، والتي ذكّرتني بأمر لطالما عرفته. #الديانات السماوية، أي الإسلام والمسيحية واليهودية، متجذِّرة كلّها بالإيمان بالله الواحد. تعتبر #الديانات التوحيدية الثلاث أنّ آدم هو الرجل الأول، وتتشاطر كلها بتبجيل الأنبياء نوح وأبراهيم وموسى عليهم السلام. قال تعالى في سورة البقرة، الآية 285 "أَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيهِ مِن رَبِّهِ وَالمُؤمِنُونَ كُلُّ أَمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ".
ويؤمن جميع "أهل الكتاب" الأتقياء بالملائكة وحتمية "يوم الحساب". قال تعالى في سورة البقرة، الآية 62 "إِنَّ الَّذِينَ أَمَنُوْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ أَمَنَ بِاللهِ وَاليَومِ الأَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ".
تذكر الكتب المقدَّسة لهذه #الديانات العظيمة الثلاث القصص نفسها، ولو مع بعض الاختلافات؛ ونذكر على وجه الخصوص سفينة نوح وأضحية أبراهيم ورؤى يوسف النبوئية، وموسى الذي قاد شعبه من مصر وسلّمه الله عز وجل الوصايا العشر.
قد يُفاجأ المسيحيون الذين لم يقرأوا القرآن الكريم بمعرفة أنّ الإسلام يعتبر يسوع (عيسى عليه السلام) رسولاً من الله عز وجل ومسيحاً قادراً على عمل المعجزات، وأن قرآننا يكنّ #الاحترام لأمّه مريم التي بشّرها الملاك جبرائيل بأنّها مباركة #بين النساء وستحبل وتلد ابناً يصبح نبياً عظيماً. قال الله تعالى في سورة آل عمران، الآية 42 "وَإِذْ قَالَتِ المَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ العَالَمِينَ".
وقال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم في ما يرويه الإمام أحمد في مسنده من حديث إبي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأنبياء إخوة لعلاّت، دينهم واحد وأمهاتهم شتى وأنا أولى الناس بعيسى إبن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبيّ".
الجوهر اللاهوتي هو نفسه في الأديان الثلاثة، وهو الإيمان بالله الواحد. الدين عند الله هو الإسلام، وهي كلمة تعني الاستسلام أو الخضوع لله الواحد، كما فعل النبي ابراهيم عليه السلام قبل وقت طويل من انكشاف كلمة الله للنبي محمد (صلعم). لهذا يعتبر الإسلام أن ابراهيم والأنبياء اللاحقين كانوا مسلمين.
والقيم الأساسية للإسلام والمسيحية واليهودية متشابهة أيضاً، من احترام الحياة البشرية، وتكريم الوالدَين، والتضحية، وحب الخير للغير، والإحسان، والتواضع، والتسامح. فضلاً عن ذلك، يُطلَب من جميع أهل الكتاب الصلاة والصوم وتأدية الجزية ومساعدة الأقل حظوة. لكن هناك اختلافات أساسية #بين الأديان على مستويات التفسير ونقاط التركيز والعقيدة والطقوس.
من يعتبرون أن الدين هو مصدر للنزاع مخطئون؛ فالديانات الثلاث ترتكز على مفهوم فعل الخير بما يحقّق فائدة للجنس البشري. أتباع هذه #الديانات هم من يتحمّلون مسؤولية الحروب الدينية لأنّهم لم يفهموا رسالة السلام والحب المشتركة بينها.
ورد في سورة المائدة، الآية 32 "مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً". واليهودية والمسيحية تضفيان أيضاً قيمة عالية على قدسية الحياة البشرية. وبناءً عليه، فإن أي شخص يدّعي الإيمان ويريق دماء بريئة باسم دينه، يلحق في الواقع الأذى بهذا الدين، فلا يمكن لأيدي المؤمنين أن تتلطخ بالدماء.
إذا التزم أهل الكتاب بكل صدق وإخلاص بما تمليه عليهم دياناتهم، فسوف يعيشون جنباً إلى جنب في جو من الوئام والانسجام والتسامح والاحترام المتبادل. لكن لسوء الحظ، في الشرق الأوسط الذي لم ينجح قط في التخلّص من الاضطرابات الدينية التي يتخبّط فيها منذ زمن الصليبيين حتى يومنا هذا، تَحُول السياسة والمصالح في شكل خاص دون تحقيق مثل هذا التعايش.
يُمعِن السياسيون في زرع الشقاق والانقسام #بين الجيران والأصدقاء وحتى العائلات من خلال استغلالهم للاختلافات الدينية بلا هوادة.
في حقبات عدّة على مر التاريخ، عاش المسلمون والمسيحيون واليهود معاً، ودرسوا معاً، وأقاموا علاقات اجتماعية في ما بينهم، حتى إنّهم صلّوا معاً أحياناً خلال احتفالات دينية. قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم: "من آذى ذمياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة".
هذا ما كانت عليه الإسكندرية في مصر التي كانت مدينة متعددة #الديانات والأصول قبل إنشاء إسرائيل وحرب 1967، وهذا ما كان سائداً أيضاً في لبنان وسوريا والعراق واليمن وبلاد المغرب العربي وأماكن أخرى. تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّه قبل اجتياح العراق عام 2003، كان اليهود والمسيحيون العراقيون تحت حماية الحكومة.
لقد عدت للتو من زيارة إلى جمهورية تترستان الروسية التي تُقدِّم نموذجاً يُحتذى عن الانسجام والاتفاق #بين الإتنيات والديانات المختلفة. وقد كشف لي رئيس البلاد أن الناس هناك لا يعرفون بالضرورة ما هو دين جارهم إلا إذا رأوه يدخل مسجداً أو كنيسة أو كنيساً.
يبدو لي أنّه يمكننا التمسّك بمعتقداتنا فيما نتفهّم معتقدات الآخرين ونحترمها. اقتناعاتنا الدينية هي هديّة من الله عز وجل؛ ويجب ألا تكون هناك منافسة بينها. ليتنا نتعلّم تسليط الضوء على القواسم المشتركة بيننا بدلاً من الاختلافات، قال تعالى في سورة الأنعام الآية 108 "وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبٌّواْ اللهَ عَدوَا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ"
الفكرة التي يقترحها صديقي الشاب أندرو صائبة جداً. لو كان هناك مزيد من الأشخاص الذين يتحلّون بنصف حكمته، لأصبحت هذه المنطقة وهذا العالم مكاناً أفضل بكثير.