علّقتُ في ما مضى آمالاً كبيرة على الرئيس الأمريكي دونالد #ترامب. فقد أُعجِبت بشخصيته القوية ونظرته الاستشرافية الإيجابية وحنكته في الأعمال. لقد استمال قادة #السعودية والإمارات ومصر في مستهل عهده الرئاسي مطلقاً وعوداً بأنه سيكون المدافِع الكبير والسد المنيع في وجه العدوان الإيراني ومتعهّداً بتطهير المنطقة من الإرهاب. يؤسفني القول بأن الآمال الكبيرة التي علّقتها على الرئيس #ترامب تبدّدت كلها وذهبت أدراج الرياح.
لقد تسبب #ترامب بزعزعة استقرار العالم مؤلِّباً الحلفاء ضد الحلفاء، ومحوِّلاً الخصوم إلى ألد الأعداء، ومهدِّداً بالتوقف عن تمويل منظمة #الأمم_المتحدة وحلف شمال الأطلسي (#الناتو)، هاتَين المؤسستين اللتين أُنشئتا بعد الحرب وأثبتتا قدرتهما على حمايتنا من آثام الماضي التي أسفرت عن سقوط ملايين الضحايا. حتى إن يوم القيامة يبدو وشيكاً جداً بسبب سياساته الخارجية الفاشلة.
يُتقن #ترامب إطلاق التهديدات والوعود التي تتبدّل بين ليلة وضحاها. ولكن حيَله لم تعد تنطلي على أحد. فانعطافاته في السياسة، وعجزه عن تمييز الواقع عن الخيال وانسحابه من الالتزامات الأمريكية في مجموعة من المسائل أطلقت صفارة الإنذار للتنبّه إلى ما يمارسه هذا الرجل من خداع. هل من شخص عاقل يعتقد حقاً أنه يمكن الوثوق بترامب؟
قدّم نفسه في البداية في صورة الزعيم المناهض للحرب متعهداً بسحب القوات الأمريكية من مناطق النزاع في #الشرق_الأوسط. ولكن الجنود لم يبارحوا أماكنهم. وازدادت القواعد الأمريكية. ومنذ تربّعه مرتاحاً في كرسيه في المكتب البيضاوي، يتعمّد استفزاز القادة الذين يمتلك بعضهم القدرة على الضغط على الزر النووي، ظناً منه أنهم سيرضخون لمطالبه. فكيف يتعامل معه هؤلاء القادة؟
في الحرب التجارية، لا يُظهر الرئيس الصيني #شي_جين_بينغ أي مؤشرات انكفاء. على النقيض تماماً، فهو يردّ الصاع صاعَين في مسألة التعريفات الجمركية التي تفرضها #الولايات_المتحدة على بلاده.
ولا يكترث رئيس #كوريا_الشمالية، #كيم_جونغ_أون، للأسلوب المعسول الذي يعتمده #ترامب؛ فهو يطلب أفعالاً، أي إعفاء بلاده من العقوبات، قبل الانخراط في مزيد من المباحثات المباشرة.
ويتمسّك الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بكرسيه على الرغم من المحاولات الحثيثة التي بذلتها إدارة #ترامب لاستبداله.
ورفضَ الرئيس الإيراني حسن #روحاني العودة إلى طاولة المحادثات أو لقاء نظيره الأمريكي للتفاوض من جديد بشأن الاتفاق النووي طالما أن العقوبات مستمرة ضد بلاده. وقد هدّد #ترامب بمحو إيران عن الخارطة. والآن يُطلق وزير الخارجية الإيراني #جواد_ظريف تهديدات بشنّ حرب شاملة في حال تعرضت بلاده لهجوم رداً على اتهامها بالضلوع في الهجمات الجوية على منشأتَين نفطيتين سعوديتين.
كيف لنا أن نضع ثقتنا لشخص غير متماسك يسعى خلف تحقيق مآربه الخاصة؟ من الممكن أن يورِّط دول الخليج في حربٍ في أي لحظة، ويجعلنا ندفع ثمن الدمار الذي قد يحلّ ببلداننا، مثلما سبق له أن أبدى أسفه لأن العراق لم يُرغَم عنوةً على وضع نفطه تحت السيطرة الأمريكية. وقد يفرض على البلدان اتخاذ موقف ما مع هذا الفريق أو ذاك، ثم يقف متفرّجاً، أو في أسوأ السيناريوهات، من الممكن أن يقرر مدّ يد المساعدة إلى أعدائنا.
المُدافع الكبير تحوّل إلى الديكتاتور الكبير الذي يعامل رؤساء الدول الصديقة بقلة احترام وكأنهم أزلامه ومهمتهم الوحيدة في الوجود هي إطاعة أوامره. وثمة مسؤولون استهدفهم بتغريدات مهينة، ولكنهم يشاهَدون وهم يتهافتون أمامه في المؤتمرات الصحافية.
عندما يلتقي قادة الدول الأغنى في العالم في اجتماعات "مجموعة السبع"، يتحلقون حول #ترامب كما يحوم النحل حول العسل، فيتهافتون لالتقاط الصور معه، غافلين عن تعابير وجهه التي تنمّ عن نفور، وعن لغة جسده التي تعبّر عن عجرفته وكأنه يصرخ "أنا الزعيم الأوحد". وكأن الزمن يعود بنا إلى الوراء، إلى عهود السلاطين والملوك، عندما كان الناس ينحنون أمامهم ويُقدّمون لهم صناديق مليئة بالذهب والحرير والتوابل.
لم يتغيّر المشهد كثيراً. الرسالة التي يوجّهها #ترامب إلى كل من يقرع بابه هي الآتية: "ادفعوا وإلا". صوت المال هو الأعلى في #البيت_الأبيض في عهد #ترامب. حتى الأشخاص الأسوأ سمعة يمكن أن ينالوا حظوة لديه شرط أن يعرضوا عليه استثمارات أو شراء أسلحة بمليارات الدولارات. يتنافسون في ما بينهم على تقديم المحفّذات الأكبر من أجل كسب الحظوة لديه. وترامب لا يفوّت فرصة لطلب المال؛ إنه حقاً ممن ينطبق عليهم بشدّة المثل القائل "كل شيء له ثمن".
كيف يُعقَل له أن يتعامل بازدراء شديد مع رئيسة الوزراء الدنماركية ميت فريدريكسن المعروفة بلطفها ولباقتها لمجرد أنها وصفت محاولته شراء جزيرة غرينلاند بـ"العبثية". فقد اتهمها بأنها تتصرف بـ"دناءة" وألغى زيارة رسمية له كانت مرتقبة إلى كوبنهاغن!
ونعتَ رئيس الوزراء الكندي جاستن #ترودو بأنه "مخادع وضعيف جداً"، ورداً على الدعوة التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل #ماكرون لإنشاء جيش أوروبي موحّد، نشر #ترامب تغريدة سلّط فيها الضوء على نسبة التأييد المتدنّية للرئيس #ماكرون وارتفاع معدل البطالة في #فرنسا.
وقد نعتَ رئيسة الوزراء البريطانية السابقة #تيريزا_ماي بـ"الحمقاء"، وتهجّم على السفير البريطاني السابق لدى #الولايات_المتحدة واصفاً إياه بـ"الغبي المعتد بنفسه". وكان للمستشارة الألمانية أنجيلا #ميركل نصيبها أيضاً من لسانه السليط.
بصراحة، الطريقة التي يتصرف بها تجعله أشبه بدائنٍ يعمل على تحصيل الديون أو رجل عصابات حمائي من الزمن القديم، وهي أبعد ما يكون عن السلوك المتوقَّع ممن يُفترَض به أن يكون رئيس الدولة التي تُعتبَر الديمقراطية الأعظم في العالم والتي تأسست على قيم راسخة مجسَّدة في الدستور الأمريكي وسيادة القانون.
ثمة استثناءات في الأسلوب الذي يتعامل به مع القادة. فهذا الرئيس الذي يرفع شعار "أمريكا أولاً" ينجذب إلى أمثال صديقه #كيم_جونغ_أون الذي يوجّه إليه "رسائل جميلة" فيما يعمل على اختبار صواريخه البالستية، أو الرئيس الروسي فلاديمير #بوتين الذي تتهمه أجهزة الاستخبارات الأمريكية بالتدخل في انتخابات 2016. ويتزلّف إلى أمير #قطر بعدما كان قد اتهمه سابقاً بتمويل الإرهاب، ولكن في كتاب #ترامب، المصالح الخاصة فوق كل اعتبار والأهم هو أن تستمر المليارات في التدفق إليه.
وكيف لنا أن ننسى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين #نتنياهو الذي تلقّى الهديتَين الأكبر من #الولايات_المتحدة، ألا وهما ##القدس ومرتفعات #الجولان. ولو أعيد انتخاب #نتنياهو، كان #ترامب ليمنحه موافقته لضم وادي #الأردن وجزء من #البحر_الميت وجميع المستوطنات اليهودية في #الضفة_الغربية. ولكن #ترامب يمقتُ الفاشلين. ففي حال سقط صديقه #نتنياهو الذي يواجه ثلاث تهم بالفساد سقوطاً مدوّياً، لن يبادر الرئيس الأمريكي إلى انتشاله ومساعدته على النهوض.
وليس الضيوف الأجانب الوحيدين الذين يتعامل معهم #ترامب بطريقة مسيئة؛ لا بل إنه يعامل مستشاريه وموظفيه بالأسلوب نفسه. تشهد إدارته نسبة غير مسبوقة من التبديلات في وجوه مسؤوليها وأعضائها. فإما أنه يفتقر إلى التبصر في اختيار الأشخاص المناسبين لضمّهم إلى فريقه، وإما أنه شديد العصبية وتخرج تصرفاته عن السيطرة، وإما أن مَن يجرؤ على التعبير عن اختلافه في الرأي تُقطَع له ورقة ويُصرَف من منصبه.
لقد باشر مجلس النواب الأمريكي تحقيقاً في أنشطة #ترامب بهدف اتهامه وعزله من الرئاسة، ولكن حظوظ النجاح ضئيلة لأن الجمهوريين يهيمنون على مجلس الشيوخ. ولذلك علينا أن نعوّل على الأخيار الأمريكيين كي يصوّتوا ضد هذا "الوريث" للرؤساء لينكولن وواشنطن وكينيدي وكارتر ويطردوه خارجاً قبل أن يصبح #البيت_الأبيض، على الرغم من كل لمعانه، رمادياً قاتماً.