تعرّضت الولايات المتحدة لانتقادات شديدة بسبب سياستها الخارجية في الأعوام الأخيرة، لكن لا بد من أن نقرّ لها بالفضل حيث تستحقّه. فأميركا هي الدولة الأكثر تعاطفاً في العالم من خلال المساعدات الإنسانية التي تُقدِّمها على المستويين الحكومي والفردي، ما يجعل معظم البلدان الثريّة الأخرى تبدو في وضع مخزٍ أمامها.
لقد موّلت واشنطن المعافاة الاقتصادية لأندونيسيا والفيليبين وتايلند وفيتنام خلال الأزمة المالية الآسيوية في 1997-1998، ومنحت مليارات الدولارات على مر السنين لبنغلاديش والهند وباكستان والنيبال وسري لانكا، وبالتأكيد، العديد من البلدان الشرق أوسطية والأفريقية. عادةً تكون فرق المساعدات الإنسانية التابعة للوكالة الأميركية للتنمية الدولية أوّل الواصلين إلى المكان كلّما وقعت كارثة طبيعية من ثوران براكين وفيضانات وزلازل في مختلف أنحاء العالم.
لكنّني لا أريد أن أبدو ساذجاً. ففي بعض الحالات، تكون المساعدات مقرونةً بشروط تصبّ في مصلحة السياسة الخارجية الأميركية. وفي حالات أخرى، تُقدِّم الحكومة الأميركية هباتها انطلاقاً من رغبة صادقة في مساعدة الأقل حظوة في البلدان الأكثر فقراً.
ويجب أيضاً الإشادة بالحكومة الأميركية كما بالعديد من الولايات الأميركية لتقديمها محفّزات في شكل حسومات ضريبية أو إعفاءات ضريبية إلى الأفراد والشركات المنخرطين في مجال الأعمال الخيرية. ينبغي على القيادات العربية الاقتداء بهذا النموذج.
لكن يُحزنني أنّ هناك مشكّكين يرتابون في دوافع هؤلاء ويعتبرون أنّهم يستغلّون هذه الترتيبات لمصلحتهم.
منذ فترة، فيما كنت أتناول مأدبة الغداء مع شخصيات مرموقة من مجلس التعاون الخليجي، أخبرتهم أنّني عائد للتو من رحلة إلى الولايات المتحدة حيث ذُهِلت بسخاء آل روكفلر. ورويت عليهم الحكاية الآتية:
"خلال التجوال في منهاتن، تأمّلت بإعجاب مقرّ الأمم المتحدة الرائع، وقد أخبرني صديق من نيويورك كان يرافقني أن جون د. روكفلر تبرّع بالمبنى لمدينة نيويورك. وقال ‘هناك مبانٍ أخرى كثيرة في ولايات عدّة تبرّع بها آل روكفلر، وتشمل مستشفيات ومدارس وجامعات...’".
لاحظت على الفور تعابير الريبة على وجوه الجالسين معي إلى مائدة الغداء. قال أحدهم "خلف، لا تكن ساذجاً هكذا. يقومون بهذه التبرّعات بهدف خفض الضرائب المترتّبة عليهم". أحسست بعدم الإرتياح لما قيل ورمقت القائل بنظرة باردة بعض الشيء.
أولاً، يجب تقدير أعمال الخير لا تشويه سمعتها. وثانياً، الضريبة هي نسبة مئوية من الأرباح. لو أراد روكفلر التهرّب من الضريبة لزيادة ثروته، لتبرّع بنسبة أقل بكثير من أمواله. إنه لأمر مثير للصدمة أنّ أشخاصاً مثقّفين يحتلّون مناصب رفيعة يتعاملون بهذا الأسلوب الرفضي مع أعمال الخير. فهم لا يرون فيها بادرة كرم وإحسان بل يعتبرونها مخطّطاً للتهرّب من الضرائب. لن أكفّ أبداً عن الإيمان بأنّ الطبيعة البشرية فُطِرت على الخير حتى لو كانت حفنة من الأشخاص تعتقد، للأسف، أنّني ساذج. أن أكون ساذجاً خير من أن أكون نكِداً.
معظم الأميركيين الذين بلغوا القمّة قدّموا شيئاً في المقابل للمجتمع بحسب إمكاناتهم. فقد نشرت مجلة "بلومبرغ بيزنس ويك" لائحة بأوّل خمسين محسناً في الولايات المتحدة وعلى رأسهم المستثمر والصناعي الأميركي وارن بافت، وتشمل اللائحة أسماء معروفة جداً مثل جورج سوروس وأوبرا وينفري وتيد ترنر وبيل ومليندا غايتس.
فضلاً عن ذلك، فإن الشركات الأميركية الناجحة تأخذ مسألة العطاء الخيري على محمل الجد. ومن أكبر الشركات المانحة في أميركا "وول-مارت" و"تارغت" و"كوكا كولا" و"سايفواي" و"بريستول مايرز-سكويب" و"بوينغ" و"كاتربيلار".
المساعي الخيرية التي يبذلها بعض أشهر الأثرياء في أميركا مثيرة جداً للإعجاب، وتتجاوز قيمتها أحياناً إجمالي الناتج المحلي السنوي للبلدان الصغيرة.
ففي وقت سابق هذا العام، أطلق بيل غايتس مبادرة "تعهُّد العطاء" مع وارن بافت، وهي دعوة إلى الأشخاص الأكثر ثراء في الولايات المتحدة إلى تقديم 50 في المئة أو أكثر من ثروتهم إلى الأعمال الخيرية إما خلال حياتهم وإما بعد وفاتهم.
واعتباراً من شهر أغسطس/آب الماضي، انضمّ أكثر من أربعين مليارديراً إلى المبادرة بينهم مايكل بلومبرغ وتيد ترنر ولاري إليسون وجورج لوكاس وبارون هيلتون وديفيد روكفلر (حفيد جون د. روكفلر الوحيد الذي لا يزال على قيد الحياة)، وكثرٌ سواهم.
قال بافت الذي يسعى إلى تشجيع الأثرياء الكبار في الصين والهند وبلدان أخرى على إطلاق نسختهم الخاصة من مبادرة "تعهّد العطاء": "نأمل في أن تصبح أميركا التي هي المجتمع الأكثر سخاء على وجه الكرة الأرضية، سخيّة أكثر فأكثر مع مرور الوقت".
وقد وعد بالتبرّع بتسعة وتسعين في المئة من ثروته وقدرها 47 مليار دولار أميركي إلى الأعمال الخيرية مثل "مؤسّسة بيل ومليندا غايتس". كما تعهّد أثرياء آخرون بالتبرّع بأكثر من نسبة الخمسين في المئة.
أكنّ إعجاباً شديداً لهؤلاء الأشخاص الرائعين الذين يدركون أن #الثروة #الطائلة #تُرتِّب على صاحبها #مسؤولية #اجتماعية. يعرفون أنّه أُنعِم عليهم، ويُصغون إلى صوت قلوبهم التي توجّههم نحو أن يعطوا في المقابل إلى ملايين الأشخاص حول العالم الذين لم يختبروا قط شعور الشبع أو المحرومين من مياه الشرب أو الذين لا يستطيعون تحمّل نفقات العلاج الطبي أو حتى أعباء التعليم الأساسي لأولادهم. يجب أن يفتخر الأميركيون بأولئك المواطنين العطوفين.
بيد أن بعض البلدان الأكثر ثراء في العالم تقصِّر، للأسف، عن التبرّع للمساعدات الإنسانية. تقوم الدول الأوروبية الثرية بما عليها. لكنّه أمر معيب أن عدداً كبيراً من البلدان العربية الغنيّة بالنفط يتخلّف عن تأدية واجبه في هذا المجال.
لا مجال للمقارنة بين التبرّعات الخيرية الأميركية وتبرّعاتنا. في الواقع، تبرّعات كل المحسنين العرب مجتمعةً أقل بكثير من المساهمات الخيرية لوارن بافت أو بيل غايتس.
المحسِنون العرب موجودون، ويجب تهنئتهم على المحاولات التي يقومون بها لإحداث فارق، لكنّني لم أسمع قط بملياردير عربي يتبرّع بنسبة 50 في المئة من ثروته للأعمال الخيرية، فما بالكم بتسعين في المئة.
كان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، استثناءً لافتاً. فإيماناً منه بأنّ ثروة بلاده النفطية هي هبة من الله يجب تقاسمها مع الآخرين، قدّم مساعدات اقتصادية لأكثر من 40 بلداً، وأنشأ العديد من الصناديق الخيرية، وموّل بناء مستشفيات ومساجد ومساكن بأسعار معقولة – حتى إنّه موّل بناء مدينة كاملة في ضواحي القاهرة.
يتعيّن على المسلمين المؤمنين أن يعملوا بركيزة الإسلام الثالثة، أي الزكاة، التي تُوجِب على الفرد توزيع 2.5 في المئة من ثروته سنوياً على الفقراء، كما يُشجَّع المؤمنون على إعطاء الصدَقات.
هناك قدرٌ كبير من الازدهار في مختلف أنحاء الشرق الأوسط والخليج وجنوب شرق آسيا، بحيث إنّه لو وُزِّعت الزكاة بنزاهة وعدل على الأكثر عوزاً، لما بقي أحد في العالم العربي أو الإسلامي دون خط الفقر يُصارع من أجل البقاء.
لسنا نحن، ‘البلدان النفطية العربية الثرية’، أضعف من الولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وحسب، بل نتخلّف عنها حتى في رفع معاناة إخوتنا البشر. إن ذلك حقا مخيب للآمال!
يقول المثل "الأقربون أولى بالمعروف". إنه ينطوي على شيء من الحقيقة، لكن بوصفنا مواطنين في قرية عالمية تزداد ترابطاً وتكافلاً، ألم يحن الوقت لنمدّ يد المساعدة إلى إخوتنا في البشرية بغض النظر عن العرق أو الدين أو اللون تماماً كما تفعل أميركا وشعبها بكل طيبة خاطر؟
لست بالتأكيد في وارد التحدّث بالتفصيل عن مساهماتي في أعمال الخير والإحسان، لكنّني أكتفي بالقول بأنّني أعرف عن كثب معنى أن يكون الإنسان فقيراً، وأستطيع بالتالي أن أتعاطف مع المشقّات التي يتكبّدها الآخرون.
أن تكون في موقع يخوّلك تحسين حياة الأقل حظوة وتعزيزها بصورة إيجابية ليس امتيازاً وحسب، فكما يقول الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم: "وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا" (صدق الله العظيم) [المزمل : 20]